بشر في الأقفاص يرضخون لمقدمات هلاكهم المفزع إحراقا وإغراقا، رؤوس تقطر دما تحملها أيد محفوفة بابتسامات عريضة، ثم تنهال الشتائم النابية على من هلكوا بأبشع الصور. حشود من المصلين تتعاقب عليهم الرصاصات والشظايا حتى تغرقهم في برك الدم. إنها مظاهر التوحش التي تعايشها أجيال العرب اليوم في ثنايا الواقع أو تحاصرها في الشبكات والشاشات.
ينشأ جيل عربي جديد مع هذه الطقوس المرعبة التي تستهين بالكرامة الإنسانية، إذ تلازمه مع وسائل التواصل، أو تخالجه في الميدان مباشرة. يطل التوحش برأسه من الشاشات، فتندلق المشاهد المروعة والتصريحات المذهلة إلى غرف الجلوس على امتداد العالم العربي.
مع رقصة الموت المتواصلة تنساح ثقافة التوحش من الميدان إلى المجتمعات، وتتعاظم التدفقات عبر العالم الافتراضي المحمول بالأيدي. يطيب لبعض القتلة توثيق الفظائع والتباهي بها، ويلتقط بعضهم صورا ذاتية مع رؤوس الضحايا، ثم تمضي الجماهير بالمشاهد المرعبة عبر شبكات التواصل والأجهزة المحمولة، وقد تصعد معدلات المشاهدة بارتفاع منسوب التوحش الكامن فيها.
يتقاسمون الظاهرة
تقتطع الجبهات نصيبها من أعمال الترويع والفتك في زمن التشظي والاحتراب، ويجري تبريرها بذرائع الانتقام والثأر، أو القصاص والردع، أو ضرورات الميدان، أو الامتثال لتعليمات عليا، فضلا عن التذرع بالقانون والعدالة. تسعى المجتمعات لأن تشفي غليلها بالولوغ في الفظائع، ومع كل فظاعة منها تعلو نزعات التوحش على صوت الضمير الإنساني والضوابط الدينية والالتزامات الأخلاقية، أما نداء العقل والحكمة فيُرمَى بالتخاذل والتقاعس. ما من مجتمع محصن ضد التوحش؛ إن هو رضخ لمقدماته.يتفاقم المنحى إن استمرأت المجتمعات أفعال القتل والتعذيب والانتهاكات، ويستحيل التوحش مع الوقت ظاهرة مستفحلة تنتظم فيها تقاليد جديدة من التباهي بالأعمال الشنيعة التي يغدو الولوغ فيها معيارا للحظوة وباعثا على الثناء.
إنها ثقافة التوحش إذ تتفاعل تراكميا في التصورات والأقوال والأفعال، ولا مناص معها من توظيف الشعارات المجيدة والزج بالنصوص المقدسة وإعادة تأويل التاريخ في السياق التبريري للمسالك المشينة، سعيا لإسباغ الشرعية على الموبقات.
لا يستحضرون التاريخ للعبرة، بل ليقدحوا بثاراته الكامنة شرارة الاحتراب في الحاضر والمستقبل، لكن التاريخ الساذج الذي يستدعونه ليس هو الماضي تماما؛ بل هو بالأحرى الرواية الوظيفية التي يسوقها كل فريق عن الماضي مشفوعة بتأويلاته التعسفية.
اتخذت داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) من "التوحش" مسلكا معتمدا فأفردت له أدبيات بخيالها ومضت في ترويجها علنا في عملياتها الرامية للتعبئة والتجنيد والترهيب. ومن القسط الاعتراف بأن "داعش وأخواتها" لا تحتكر التوحش؛ بل تتقاسمه مع سلطات رسمية وقوات مسلحة وتنظيمات شبه عسكرية وحشود شعبية تفعل فعلها سرا وعلانية.
ومن المألوف أن تنطلق متوالية التوحش من لحظة تستشعر فيها السلطات المستبدة تهديدا لمصالحها، وعندها لن تتردد في التكشير عن أنيابها فتباشر الافتراس الذي يؤذن بتفاقم النهج الوحشي حتى يصبح ثقافة عامة وسلوكا شائعا. تكون التصفيات الجسدية وحفلات الإذلال شاقة بعض الشيء في البدء، ثم تصبح اعتيادية ويغدو ضحاياها مجرد بيانات عددية إن استذكرهم أحد، ومن المألوف أن يحظى مقترفو الأعمال الوحشية بتكريم المنظومة.
يجدر الإقرار بأن التطورات الجارية في بلدان عدة تقيم الحجة على العديد من مربعات الاحتراب السياسي والطائفي وهي تتقاسم حصصها المؤكدة من ظاهرة التوحش، كل على طريقته، وإن حظيت بعض الجيوش والقوات الرسمية بالأسبقية في الممارسة وتأسيسها في الواقع العربي.
وإذا ما أعفى المتحدثون أطرافا ضالعة في الظاهرة من قسطها من المسؤولية عن تفاقهما؛ فسيبقى الحديث عن التوحش نقاشا غير موضوعي، وقد يقود هذا الانحياز الكامن إلى استنتاجات مضللة تتستر على بعض الحقائق.
استشراء لغة التوحش
تأتي الكلمات المتراصة في خطاب البغضاء مقدمة اعتيادية لأصابع المتفجرات التي يلفها أحدهم حول خاصرة فتى يندفع وسط الجمهرة في سوق أو دار عبادة، فالصراعات تبدأ غالبا بمنطوق الكلام قبل أن تتجسد في حلبة المواجهة، وما إن تتهاون المجتمعات مع التوحش اللفظي حتى تسقط في فخاخه الواقعية، وما إن ينزع كل فريق الصفة الإنسانية عن الآخر؛ حتى يكون الإقدام على الفتك به أو نحره أو سحقه أو تفجيره أيسر منالا.
يتجرد المتحدثون من الالتزامات القيمية والأخلاقية، فينزعون الصفة الإنسانية عن خصومهم بإدخالهم مثلا في عداد الحيوانات أو الحشرات أو الجراثيم، كناية عن الجاهزية لسحق حقوقهم أو مباشرة إبادتهم، فليس هذا المسلك مكرسا للإهانة والاحتقار وحسب؛ بل يستبطن تسويغا ضمنيا لفعل الفتك والقتل أو الحرمان من الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية التي يُفترض أن تكفلها دولة القانون.
ينزع خطاب التوحش الصفة الإنسانية عن الضحايا المحتملين، ويباشر صب الإدانات العمياء عليهم لتحميلهم المسؤولية عن ألوان العذاب التي ستطاردهم، بهذه الحيل وغيرها يتم حجب الضحايا عن ضمائر الوعي الجمعي تحاشيا لخطر تماثل المجتمعات مع إنسانيتها، ولتخدير الجماهير منعا لتعاطفها مع الآلام والمعاناة التي في أحشائها أو من حولها.
وفي برامج المساء والسهرة يبوح المتحدثون بالقسوة اللفظية التي تقصف بها الشاشات مشاهديها، وتسري لغة التوحش المذهلة على ألسن كبار المسؤولين والشخصيات العامة. فأي قانون بوسعه أن يسود إن استعمل وزير العدل ذاته لغة الانتقام الفاشية، فيتوعد مئات الآلاف من مواطني دولته العريقة بالقتل الجماعي عبر البث المباشر؟ وهل يسلم القضاء من التوحش إن استحال منصة عابثة لتلفيق أحكام الإعدام على مئات البشر المحترمين دفعة واحدة؟ إنها الملابسات اللفظية لجرائم القتل الجماعي، تماما كما جرى استباق مذابح الميادين العربية بشعارات وأغان نزعت صفة الانتماء المشترك والهوية الوطنية عن الخصوم، من قبيل: "نحن شعب وهم شعب".
يتوارى العقلاء خجلا من حكمتهم، ويصعد محترفو الشحن والتوتير على أكتاف من سيدفعون الثمن لاحقا من لحمهم الحي، وهكذا يرتحلون إلى فوهة البركان انتظارا لنشوة الموت المنبعثة حمما من أعماقه. ستُفزعهم العواقب الوخيمة والمآلات الفادحة بعد انزلاق الصراعات من الوجدان إلى الوجود، وقد كان عليهم ابتداء أن ينبروا لنزع فتائل التفجير التي تدلت مع الألسن، وإيقاف سفك الدم الذي نزف مع الأقلام.
تنظيم التوحش الحديث
تستبطن المجتمعات بذور التوحش الكامنة، مهما بدت وديعة في ماضيها وحاضرها، وهذا من عظات الاجتماع الإنساني كما برهن عليه البشر في أحقابهم ورقاعهم، ويبقى كبح هذه النزعة من أولويات التربية والتهذيب والتعليم والاجتماع المتحضر، لتحقيق الانضباط بالقيم والشرائع والنظم والأعراف والقوانين.
أما عندما تتوحش المجتمعات الموصوفة بالحداثة فإنها تحرص على إتقان الصنعة وتسعى لتنظيمها وممارستها خارج المشهد المرئي، تماما كما تُعزل مصانع التلوث ومسالخ المواشي ومكبات القمامة في أطراف المدن. ثم تتوالى الأنباء المجهزة بعناية للجماهير عن الوقائع التي تجري في الأطراف، بما يشبه الكيفية التي تحصل بموجبها المدن الحديثة على اللحم المذبوح، إذ يأتيها في هيئة أنيقة ضمن تغليفات زاهية، تحاشيا لرؤية الدم المسفوح ومشاهد النحر والسلخ.
إنه المسلك الذي تخوض به الأمم المحسوبة على تصنيف "التقدم" حروب الفتك، إذ لا تضطرها قدراتها المتطورة إلى استعمال البراميل المتفجرة أو العودة إلى ذكريات الأرض المحروقة. فما يراه الناس منها هو القصف المصور بطريقة ألعاب الفيديو، وفيها لا يظهر الضحايا بوجوههم ولا يُستثار التعاطف مع الأهداف الماثلة على الأرض. وتفي الطائرات بدون طيار بمتطلبات الزمن الجديد التي تعفي الضمائر من التأنيب، فلن ترى الجمهرة أولئك الذين باشروا الفتك، وستعود المجنحات المسيرة خلسة إلى قواعدها دون أن تعبأ بمن سحقتهم، وهذا على نفقة دافعي الضرائب وبتفويض مفتوح من ناخبي الديمقراطيات.
تنتصب غوانتانامو مثالا لتنظيم التوحش الحديث، الذي يقتضي العزل بعيدا عن المشهد المدني الغربي وحصره في تلك القاعدة الأميركية الخارجة عن التصنيف، فلا هي في الولايات المتحدة ولا هي تتبع لسيادة كوبا المقتطعة من أرضها، فتكون بهذا ملائمة تماما لاستيعاب من تم إخراجهم من التصنيفات القانونية المعتمدة للسجناء المحليين أو لأسرى الحرب.
ولهذا المسلك تقاليده الراسخة التي تجذرت في العهود الاستعمارية، عبر تنويع أنماط السلوك بين الداخل الأوروبي والخارج الاستعماري، ففرنسا التي خاضت ثورتها ورفعت قيم الجمهورية -مثلا- لم تتصرف بمقتضاها مع الشعوب التي أخضعتها وأرهبتها بالسطوة والهيمنة، وقد عمد النظام النازي البائد إلى افتعال نمط حديث من التوحش المذهل، عندما أقام معسكرات التركيز بعيدا عن العواصم والحواضر لتكون موئلا لفظائع كبرى.
لقد انزلقت العديد من المجتمعات إلى أساليب الذبح والإحراق والتنكيل في غمرة توحشها الذي لم يستثن قارة من القارات، وإن طفت فظائع الحاضر على السطح مع مستجدات التواصل والعولمة، فما من أمة إلا خلا فيها توحش، ولا يتطلب تجديد العهد به سوى تحضير الشروط اللازمة لإنعاشه كالتي تم تشخيصها علميا في مثل تجربة ملغرام (1963) وتجربة سجن ستانفورد (1971) وغيرهما. فالتوحش يغدو ظاهرة إن تحققت له وفرة من المحفزات والتواطؤات في بيئته، ولم يواجه اعتراضات كابحة أو مقاومة جادة.
هكذا يتضح جانب من الملابسات التي أقدم فيها جنود أوروبيون على اقتراف أعمال شنيعة بحق صوماليين من الأحياء والأموات، تم توثيق بعضها بالصور خلال خدمتهم في العملية المسماة "إعادة الأمل" (1993)، ومثلها فظائع التوحش المشين التي اقترفها ضباط وجنود أميركيون بحق العراقيين في سجن أبو غريب (2004)، وغيرها كثير.
أما عندما يُفرَض التخلف على منطقة فسيدفع ذلك أهلها لأن يتصرفوا بطريقة متخلفة، وأن يستنزفوا مواردهم بأساليب متخلفة، وأن يغضبوا بكيفية متخلفة، وأن يخوضوا صراعاتهم بخيارات متخلفة، فتمضي الغواية ببعضهم إلى حز الرؤوس وإحراق الأحياء على منوال الأزمان الغابرة، ولن يفوتهم حمل المشهد إلى العالم بالتقنيات المتاحة كي يغمسوه في الدم ويقضوا به مضاجع البشر.
تختزل الوقائع العربية اليومية قيمة الإنسان في الوعي الجمعي، فالمئات يهلكون كل صباح بأعمال القصف والتفجير والذبح ويُضافون إلى القوائم العددية المتطاولة، وساعدت مشاهد الهلاك الجماعي المتواصلة بلا هوادة على تطبيع الحس العربي العام مع الفظائع التي تحولت إلى مادة للفرجة.
ومن أعراض الآفة أن يبادر المجتمع إلى تشغيل حس التعاطف مع الضحايا من الشيوخ والنساء والأطفال انتقائيا حسب مواقعهم من المربعات الإثنية والطائفية والقبلية، وقد لا يفور الدم في عروق أحدهم إن أبصر شيخا مدمى أو صبيا ممزقا أو أكواما من لحوم البشر في الأرجاء.
إنه تهديد جسيم للمجتمعات العربية واختبار تاريخي لصفوتها وقواها، إذ عليها وسط العواصف العاتية أن تدرك ما يعنيه سقوط أجيالها في قبضة التوحش والرضوخ لثقافة "الضرب في المليان"، وأن تعي الملابسات المفضية إلى مزيد من التدهور، قبل فوات الأوان.
المصدر : الجزيرة