قائد الطوفان قائد الطوفان

وداعاً.. صديقي اللص

بقلم : رشا فرحات

كنت صغيراً في السن وقتها.. طفلا في العاشرة من عمره ليس لديه القدرة على التفريق بين الصالح والطالح ،كنت أهاب الاختلاط بالبشر، اضطرتنا الظروف للسكن في هذه الحارة والتي اشتهر ساكنوها بالسمعة السيئة من بلطجة وعربدة وتجارة علنية للمخدرات.

 كانت أمي تقرأ على مسامعي قبل ذهابي كل يوم إلى المدرسة درساً في الحيطة والحذر، بل كانت تخشى مجرد حديثي مع أي من سكان أو أطفال الحارة، وكأنهم وباء منتشر تخاف من انتقال عدواهم إلي، وتلقنني آلاف المرات بأن -غزة مدينة تخلو من القانون - لذا من الواجب علي تفادي الوقوع في أية مشاكل مع احد.

 وأبي كان رجلاً مسالما، لا يقوى على التصدي لأي كان، وكان يهاب الحديث في أي موضوع يعرضه للقيل والقال، فبقي متقوقعاً على حياته بين منزله وعمله، على الرغم من أن الجميع في الحارة يعملون له ألف حساب، بل ويتدافعون لخدمته وتلبية أوامره، لو شعروا انه يتعرض لمأزق .

وكنت اجهل سبب نظرة الكبر في عينيي أمي للنسوة في هذه الحارة، حتى أبي لم يكن يجرؤ على عصيان أوامرها، برغم انه كان مخالفاً لها في أحكامها المسبقة على البشر من مجرد النظر.

كل مفاهيمي قد تغيرت يوم ظهوره في حياتي.. شاب مفتول العضلات..تماماً مثل أبطال الأساطير الأقوياء – أو هكذا كان يراه خيالي الصغير-  مقطوعاً من شجرة، رجلاً في مثل عمر أبي لم أر له أماً أو أباً، ولا اعرف له بيتاً، كل ما أعرفه عنه انه لص- كما كان يقول أهل الحارة - لذا كنت أخشاه بل وتسكنني رهبة من مجرد النظر إلى عينيه إذا مر بالقرب من بابنا.

ولكنه على سمعته السيئة كان محبوباً من الجميع ..وكان معشوقاً من كل الفتيات في حارتنا لوسامته وثقته بنفسه، ورأسه المرفوعة كما كانوا يقولون، كانت تجتاحني رغبة قوية في مد يداي لملامسة يديه، للفت نظره بأي طريقة، لعله يبشرني ببطولة مدفونة في أعماقي ستخرج في يوم من الأيام .

حتى أتى ذلك اليوم الذي تشاجرت فيه مع احد أبناء الحي، وأنا على قلة خبرتي في المشاجرات، وتلبية لمطالب أمي وتخوفات أبي، أكلت وجبة ساخنة من الضرب المبرح، ولولا ظهوره على غفلة ليأخذ لي بثأر -لم أكن انوي الأخذ به- وتخليصي من بين أيديهم لقتلت تحت تأثير هذه اللكمات .

بدأت أواصر الصداقة بيننا في التزايد يوماً بعد يوم، وأصبح لدي مكانة بين أبناء حارتنا، يهابني كل الأولاد ،ولمجرد أن انطق باسمه أو أرسل له تحية عن بعد حتى يرتجف كل من حولي لمجرد سلامي عليه ،ولكني كنت أرى في عيناه نظرة حسد لي وأنا أسير بجانب أبي أو امسك بيد أحد من أخوتي أو حتى أثناء عودتي من مدرستي ، حيث قال أمامي في حديث طويل دار بيننا يوماً :انه كان يتمنى الدخول إلى المدرسة ، بل وكان يتمنى أن يصحو من نومه على وجه أم تدعوه لتناول وجبة الإفطار ، أو حتى أن يعوده زائر ليواسيه في مرض أوجع ، وبأنه لم يجد يوماً يداً تكفكف دموعه أو من يسأله عن أي حال .

وبازدياد أواصر الصداقة بيننا بدأ صديقي اللص بتلقيني دروساً في الزعرنة والمحافظة على النفس – طبعاً دون علم أمي بذلك -  فقد كنت اختلس بعض الوقت قبل عودتها  من العمل لأذهب وأتابع الدروس في مدرسته .

لقد أصبح صديقي ، بل واقرب إلي من إخوتي ، وأصبحت مصاحبتي له هي أملي في الحياة ..هي نافذة الشمس الوحيدة التي أستطيع من خلالها التنفس ،وأصبح لي شأن ورفعة بين أولاد الحارة ، وتعلمت كيف أدافع عن نفسي ، وكيف اخطف حقي من براثن الذئب لو لزم الأمر ، وكانت جملته الوحيدة التي يرددها على مسمعي ( لا تتنازل عن حقك أبداً.. حتى لو دفعت روحك ثمناً لاسترجاعه ).

ولقد اقتربت بفضله من الجيران وتعرفت إلى قلوبهم الطيبة عن كثب، وعرفت أن هذه الحارة بفطرتها والتي لا تعجب أمي وأبي قد خرجت ألاف الطيبين والطيبات، وقد خبأت وراء جدرانها عشقاً جارفا للحياة برغم الفقر وقلة الحيلة، وكما فيها زعران أشقياء يحملون الأمواس على جنوبهم فهي أيضا تحوي قلوباً رحيمة، شهمة خدومة معطاءة لأبعد حد، حتى وان كانت تجهل ثقافة الحلال والحرام.

عشقت روحه المضحية من أجلي ، حتى أدمنت رؤيته كل يوم ألاف المرات ، بل وأدمنت المناداة باسمه كلما الم بي كرب أو ضيق أو شعرت بيد ظالمة قد امتدت علي.

وغدت دروس أمي المحقرة لهؤلاء الناس تتطاير من ذاكرتي بعدما أصبحوا جميعاً أصدقاء لي وأهلاً، ولم أكن صريحاً معها عندما تخضعني كعادتها كل ليلة لتحقيق واستجواب عمن لعبت معهم أو من تحدثت إليهم، ولم أكن طبعاً أجرؤ على ذكر اسم صديقي اللص لأنه من وجهة نظرها أخطر وباء في حارتنا، تلوي فمها استهزاءا بهذه العيّنة من البشر – كما كانت تسميها - ثم تخرج شهقة قرف لمجرد ذكر اسمه.

حتى أتى ذلك اليوم اللعين، الذي جعل من صديقي ذكرى مخلدة في قلبي وقلبها معاً، يوم تعرضت فيه لعملية اختطاف من بعض الغرباء عن حارتنا، نفر من اللصوص الغير شرفاء انهالوا عي بضرب مبرح لمجرد الاستعراض فقط – وقد غدا استعراض العضلات عادة في مدينتنا- حتى أوشكت على لفظ أنفاسي الأخيرة بين أيديهم قبل أن أرى خيالات صقر جامح تنقض على فرائس جبناء، ثم تنهال عليهم بكل ما أوتيت من قوة ، رأيت روحاً اشتعلت فيها نيران الحق والعدالة فأبت الظلم على أحد، وأبى أن يقف متفرجاً علي دون أن يتدخل ،دون أن يفكر في قانون لاسترجاع حقه.. فقد بات الخطر يهدده هو أيضاً وبدأ صوت لكماته يصرخ باسم القانون الضائع.

سألت نفسي وأنا أتفرج عليه يقفز ويصهل كالفرس الأصيل، ما الذي يدفعه للدفاع عني حتى الاستماتة ؟!!

قطعت حبل استفهامي صرخاته الأخيرة  ..خانته حساباته هذه المرة ولم يستطع تحمل كل الضربات فسقط صريعاً برصاصة جبان تعود قنص الأبطال من ظهورهم ، وفي غمضة عين انتهى كل شيء ، الجاني فر من مكان الجريمة ، وبقي هذا المجني عليه جثة هامدة تنظر إلي بعينان ترددان أنشودة حفظتها قبل رحيله (لا تتنازل عن حقك ...حتى لو دفعت حياتك ثمنا لاسترجاعه )

عدت ..مضطرا.. إلى حضن أمي تلك الليلة تنفيذاً لوصية صديقي اللص  ..وحكيت لها لأول مرة حكاية صداقة لم تكتمل ، وسألتها سؤالاً واحداً..لو كنتِ مكان صديقي اللص ماذا كنت ستفعلين؟!

لم أسمع منها رداً.. ذهبت وأطرقت باب غرفتها على خوف جديد ...ودموع انهمرت رغماً عنها.

 

البث المباشر