تستمر السلطة الفلسطينية في مخالفة قوانين النظام المالي المتبع لديها لسنة 2005، والأسس والقواعد المالية والمحاسبية. ففي الوقت الذي تمتنع فيه السلطة عن الإفصاح عن الموازنة العامة وما يتضمنها من بيانات مالية تفصيلية، باعتبارها "خطة الدولة لسنة مالية مقبلة"، تمتنع أيضًا عن نشر "الحساب الختامي" الذي يمثل بيانًا لحساب الموازنة.
وتنص المادة (66) من قانون رقم (7) لسنة 1998م بشأن تنظيم الموازنة العامة والشئون المالية، على أن تعد وزارة المالية مسودة الحساب الختامي، وتقدمها إلى مجلس الوزراء للاعتماد والإحالة إلى المجلس التشريعي خلال سنة من نهاية السنة المالية للإقرار، كما وترسل نسخة من المسودة إلى ديوان الرقابة المالية والإدارية، الذي يعتبر الجهاز الأعلى للرقابة في فلسطين، قبل أن يرسل الأخير ملاحظاته إلى المجلس التشريعي.
لكنها منذ العام 2010 تمتنع عن نشر هذا الحساب، وفق ما هو موضح على الموقع الإلكتروني لوزارة المالية؛ في مخالفة قانونية تثير عديدًا من التساؤلات حول أسباب ذلك، إذا ما كانت الموازنة العامة تتسم بالشفافية والنزاهة!
وبحُكم أن السلطة الفلسطينية تعتبر التشريعي معطلاً، فإن الديوان يرفع ملاحظاته إلى رئيس السلطة مباشرة، باعتبار أن الديوان مسؤول أمامه.
وقد استنتج "معد التحقيق" أن وزارة المالية تتعمد التأخير في تقديم الحساب الختامي إلى ديوان الرقابة؛ لأسباب ربما يكون من بينها تضليل الجهات المانحة للسلطة الفلسطينية، من خلال خلق فجوة زمنية تطرد الرغبة لدى الأطراف المعنية بالتدقيق في أرقام أصبحت قديمة.
مع العلم أن الحساب الختامي لعام 2011 تم نشره على الموقع الإلكتروني للديوان بداية عام 2016، بعد أن سلّمته وزارة المالية للديوان بتاريخ 31/12/2015، وفق إياد تيم رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية، لـ "الرسالة"، في مخالفة صريحة لنص القانون الذي يوجب الوزارة بإعداد الحساب الختامي خلال سنة من نهاية السنة المالية للإقرار.
وقد لاحظت "الرسالة" أن الحساب الختامي لسنة 2011، الذي اطلع عليه "معد التحقيق"، تم نشره باللغة الانجليزية فقط، وهذا يخالف الهدف منه، على اعتبار أن من أُسس إصداره أن يكون بلغة مبسطة وموجهة للمواطن.
وقال تيّم إن التأخير في تقديم الحسابات الختامية سببه وزارة المالية، وأن دور الديوان ينحصر في تدقيق هذه الحسابات فقط، مضيفًا: "كل سنة مرتبطة بالتي تليها، ولا يمكن أن نقفز مباشرة إلى سنة 2013 بدون تدقيق الحساب الختامي لسنة 2012".
الحساب الختامي يعفي السلطة من التدقيق والمتابعة لأوجه الإنفاق من الموازنة
وأشار إلى أن الديوان يدقق حاليًا في الحساب الختامي لسنة 2012، متوقعًا الانتهاء منه خلال ثلاثة شهور. وكشف عن أن وزارة المالية وعدتهم بتسليم الحساب الختامي لسنتي 2013 و2014 خلال شهرين من تسليم ختام 2012.
وأكد تيّم أن وزارة المالية متأخرة الآن لمدة 4 أعوام، قبل أن يقول: "كان مفترضًا أن تسلمنا الحساب الختامي لـ2012 خلال شهر فبراير من العام 2016 الماضي، لكنها لم تستطع ذلك، وطلبت التأجيل، وظلت تؤجل ذلك لغاية شهر 9 من العام نفسه" !
وقد حاول "معد التحقيق" الاتصال بوزارة المالية؛ للحصول على إجابات حول أسباب تأخير تسليم الحسابات الختامية وتأجيلها، لكن لم يتلق أي رد.
تأخير متعمد
ومما يؤكد على أن التأخير متعمد من طرف المالية، أن "معد التحقيق" حصل من مصادر خاصة في رام الله على نسخة من الحساب الختامي لسنة 2015 للموازنة العامة التي اعتمدها الرئيس محمود عباس بتاريخ 30/6/2015.
وتقدم النتائج المتضمنة للحساب الختامي لسنة 2015 تفسيرات لأسباب هذا التأخير، كأن نعرف أن الحساب أظهر وجود انحرافات مالية واضحة من شأنها أن تؤثر بشكل سلبي وكبير على شفافية الموازنة العامة في فلسطين.
وكشف الحساب الختامي لتلك السنة عن انخفاض المساعدات والمنح المقدمة لدعم الموازنة العامة، مع عدم وجود مؤشرات على تحسن في المنح بالسنوات المقبلة، مقابل ارتفاع قيمة الدين العام مقارنة بنهاية العام 2014، بما مجموعه (9,908,1) مليون شيكل !
ومن بين ما تم الكشف عنه، ارتفاع الإنفاق على قطاع الأمن ضمن الموازنة العامة، بما قيمته حوالي 28% من إجمالي النفقات، وبمبلغ يوازي وزارتي التعليم والصحة، مجتمعتان!
وزارة المالية تتعمد التأخير في تقديم الحساب الختامي لديوان الرقابة؛ لأسباب ربما يكون من بينها تضليل الجهات المانحة
كذلك فإن الاحتياطات المالية في موازنة العام 2015 قدرت بمبلغ 55 مليون شيكل، فيما تم فعليًا إنفاق (26.655) مليون شيكل، جميعها وردت تحت بند نفقات تحويلية، ولم يتم ذكر أي تفاصيل عن تلك النفقات أو مدى أولويتها، بشكل يخالف مبادئ الشفافية، وإمكانيات المساءلة.
وفي الأثناء، أكد عزمي الشعيبي، مدير الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة-أمان لـ "الرسالة"، أن ديوان الرقابة المالية والإدارية كان قد دقق الحساب الختامي لسنة 2010، وسجّل تحفظاته عليه، "بمعنى أنه لم يجد في بعض النفقات ما يكفي من المعطيات التي تؤكد أن هذا الصرف تم وفقًا للموازنة المقرّة لتلك السنة"، وفق قوله.
وقد اطلع "معد التحقيق" على تقرير الديوان حول التدقيق على الحساب الختامي للسنة المالية 2010، وأظهر عددًا من التحفظات لدى الديوان، أهمها: عدم وجود موافقة من مجلس الوزراء في حينه على بعض اتفاقيات القروض المحلية، وأن وزارة المالية اشترت أراضي ومباني بشكل مخالف للقوانين، إضافة إلى وجود عمليات صرف نفقات بشكل استثنائي دون اكتمال "معززات الصرف"، خلافًا للنظام المالي الفلسطيني.
ولاحظ الديوان أن وزارة المالية لا تمتلك أساسًا واضحًا لإعداد الموازنات التطويرية والإنفاق، بحيث تم استخدام الموازنة التطويرية في كثير من الأحيان لتغطية نفقات جارية أو رأسمالية لبنود لا يوجد لها مخصص موازنة!
ويعتبر الشعيبي أن إعداد الحساب الختامي إجباري؛ "لأن الموازنة قانون، وأي مخالفة في هذا القانون تتحمل وزارة المالية المسؤولية عنها"، كما قال.
وأضاف: "الحساب الختامي هو الصورة النهائية التي بموجبها تصرفت الحكومة في أموال الخزينة في هذا العام، والتي تؤكد كيف التزمت بالقانون، وما تم إقراره في الموازنة بصيغتها النهائية".
وأشار الشعيبي إلى أن وزير المالية شكري بشارة كان قد أكد في مؤتمر صحفي حديث له أنهم بصدد تسليم حساب 2013 و2014. وهنا، يقول مدير ديوان الرقابة المالية والإدارية، تيم: "إذا أوفت وزارة المالية بوعدها، فإن الفجوة تتقلص خلال عامين، ونكون قد بلغنا الموعد الصحيح بتدقيق الحساب الختامي لكل سنة في وقته".
اهتمام المانح
وبالعودة إلى الحساب الختامي لسنة 2011، أشار تيم إلى أن "المانحين والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي" أكثر جهات اهتمت به، "لدرجة أنه تم مناقشة الحساب في أحد اجتماعات المانحين في نيويورك"، وفق تأكيده.
وذكر أن "أكثر شيء يتم المراجعة فيه دائما، هو ارتفاع فاتورة الرواتب، التي لابد أن تكون مرتبطة بالناتج المحلي".
الحساب الختامي لسنة 2011 تم مناقشته في إحدى اجتماعات المانحين في نيويورك
وأكد ذلك الدكتور سمير أبو زنيد رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية السابق، الذي قال لـ "الرسالة" إن المانحين كانوا مهتمين كثيرًا بذلك الحساب الختامي.
ويستحوذ الإنفاق على قطاع الأمن على النصيب الأكبر من موازنة السلطة الفلسطينية، ويخصص الجزء الأكبر منه لبند الرواتب والأجور.
وقد أظهرت دراسة حديثة للخبير الاقتصادي أسامة نوفل، بعنوان "أين تذهب موازنة السلطة الفلسطينية؟"، أن الرواتب والأجور تشكل ما نسبته 54% من إجمالي النفقات الجارية، وأن الرواتب ارتفعت من 1.2 مليار دولار إلى 2 مليار ما بين عامي 2005 و2014.
ومن جملة المخالفات التي أظهرتها الدراسة فيما يتعلق بالموازنة، والتي يمكن اعتبار نتائجها سببا في تأخير تسليم الحسابات الختامية، أن هناك أعدادا كبيرة من الموظفين الحكوميين "خارج" التشكيلات الإدارية لمراكز المسؤولية، ويتقاضون رواتبهم من السلطة !
وكشف الدراسة عن أن ملف مكتب الرئيس ووزراء ووزارة الخارجية، بما فيها السفارات، من أكثر الملفات فسادًا؛ بسبب عدم وجود رقابة إدارية ومالية تتابع وتراقب عملياته، حيث بلغت نفقات الخارجية منذ بداية عام 2015 وحتى نهاية أكتوبر من نفس العام، نحو 217.681 مليون شيكل !
بينما بلغت نفقات مكتب الرئيس خلال نفس الفترة 153.233 مليون شيكل، دون معرفة عدد الموظفين الفعليين !
ويؤكد رئيس ديوان الرقابة أن هناك "خللًا، لا بد من تصحيحه من البرلمان؛ "لأن رجل الشارع لا يستطيع ذلك"، وفق تعبيره، مشيرًا إلى أن الضغط يتم حاليًا من المانحين، وتحديدًا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وفي السياق، يقول النائب جمال نصار، رئيس لجنة الموازنة في المجلس التشريعي إن السلطة تفتقد للمصداقية والشفافية، مضيفًا: "الذي لا يعرض الموازنة للناس، في نيته ألا يظهر الحساب الختامي".
وذكر في حديثه مع "الرسالة" بأن الأصل أن تعرض السلطة الموازنة أمام الناس؛ لمناقشتها، "لأنها تخصهم كلهم"، مستدركًا: "إذا لم تفعل ذلك، ولم تناقش الموازنة، فهل ستتيح المجال لمناقشة الحساب الختامي؟ بالتأكيد لا".
وتابع نصار: "إذا كان هناك موازنة، فإنه يمكن الحكم على تصرفات السلطة خلال السنة من خلال الحساب الختامي، الذي يظهر ما تم إنفاقه في الموازنة، وأداء الحكومة سواء سلبًا أم إيجابًا".
مشاكل في إدارة المال العام
وعلى نحو متصل، يؤكد وائل الداية، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الإسلامية بغزة، وعضو الفريق الأهلي لشفافية الموازنة العامة، أن الحساب الختامي يتطلب أن يكون هناك مسؤولية، وإظهار ما تم تحقيقه من الموازنة العامة، "وهذا يعفي السلطة من التدقيق والمتابعة لأوجه الإنفاق من الموازنة".
واعتبر الداية، في حديثه مع "الرسالة" أن عدم نشر الحساب الختامي، يعني عدم وجود شفافية، مضيفا: "عدم نشره يعيقنا من تتبع الإخفاقات، وعدم معرفة ما إذا تم إنفاق المبالغ على الإنجازات الاقتصادية أم لا. وهذا يسمح بمشاكل في إدارة المال العام".
وأكد أن إعداد الحساب يتطلب وجود وضوح في أوجه الإنفاق للمال العام، وبالتالي وجود مساءلة للوزارات التي قامت بعملية الإنفاق، وهذا غير موجود في ذهنية الحكومة الفلسطينية"، قائلًا: "طالما أن الموازنة العامة مبنية على أسس غير صحيحة، بمعنى عدم وجود وضوح وشفافية، فإن الحساب الختامي سيكون خاطئًا".
ونصح الداية بأهمية نشر الحسابات الختامية، ومراجعتها، مع توضيح للتحفظات التي يبديها ديوان الرقابة المالية والإدارية، وأن يكون هناك شفافية، قبل أن يقول إن ذلك "مرتبط بالسياسة العامة للسلطة، التي ترفض نشر الحساب الختامي، وهذا مسؤول عنه وزارة المالية بالدرجة الأولى".
من جانبه، أوضح رئيس ديوان الرقابة أن هناك ضغطًا على المالية بضرورة إعداد الحسابات الختامية، قائلًا: "نحاول حاليًا بالتعاون مع وزارة المالية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن نقلل من الفجوة (...) أبدينا استعدادًا أن نعطي رأيًا ماليًا مهنيًا مستقلًا في الحساب الختامي خلال 6 شهور".
وشدد تيم على أهمية إعداد الحساب الختامي؛ "لأن مقياس الشفافية فيما يصرف فعلاً، وإبداء رأي مهني مستقل من جهة مستهلة كالجهاز الرقابي أو ديوان الرقابة".
وعلى ضوء ما تقدم، فإنه يتضح أن الهدف من نشر وزارة المالية الحسابات الختامية متأخرة، الإشارة إلى الدول المانحة بالتزام إصدارها، بمعزل عن أهميتها وحاجتها في تعزيز مبدأ سيادة القانون وتطبيقه، وتجنب الانحراف في موازنات الأعوام المقبلة.