أذّن في يبنا والداخل المحتل والامارات

في مخيم "النصيرات".. "هليّل" تجاوز الـ 97 ولا يزال ينادي للصلاة!

المؤذن هليل
المؤذن هليل

الرسالة نت- أمل حبيب

قد يبدو الحديث مع عجوز تجاوز التسعين من عمره أمرًا مستحيلًا، الا أن لقاءنا بالحاج محمد هليّل _أبو علي_ 97 عامًا تعدى الستين دقيقة ولم نفكر بالمغادرة، لولا أنه من بادر وتركنا لرفع أذان الظهر في مسجد الجمعية الإسلامية بمخيم النصيرات!

ساقه اليمنى وضعها على اليسرى طيلة الجلسة، في حين لم يفلت عكازه الخشبي من قبضة يده، أما نظارته الطبيّة السميكة لم تخفِ شيئًا من عينيه رغم صغرهما، وقد أثقلت التجاعيد عليهما كذلك.

"من يبنا مواليد 1923" هكذا عرّف عن نفسه قبل كل شيء، وابتسم للكاميرا وكأنه يدرك أن أصل الحكاية كانت هناك ولن تتوقف كما "الله أكبر" التي ينادي بها منذ عشرات السنين.

رغيف وبيضة!

كل يوم رغيف من الخبز الساخن كان يضعه الطالب محمد هليل في سلة "شيخ الكتاتيب"، ماعدا يوم الخميس كان يضيف على الرغيف بيضة، هي أولى محطات التلميذ "محمد" ابن القرية في أبجديات الحياة، قبل أن يصبح مؤذنًا في "يبنا" عام 1936.

لا مكان لخريف العمر في بيت المؤذن أبو علي بمخيم النصيرات وسط القطاع، ولا حاجة لرفع صوتنا إذا ما تحدثنا عن "يبنا" التي هُجّر منها ابان النكبة عام 1948، ستدرك حتمًا أن قريته لم تغادره، وكأنه ترك محراب "جامع البلد" هناك قبل مقابلتنا بنصف ساعة!

"من يبنا طلعنا مشتاقين للأذان، يقول أبو علي ثم يضيف:" في غزة أذنت في البريج ولما مات الشيخ خميس واستلمت الأذان في جامع الجمعية في النصيرات في عام 1957".

ابن المخيم ورث تعلقه بالأذان من الحاج خميس أبو محيسن ابان تواجده بين أزقة النصيرات، يبتسم وهو يسترجع صباه:" كنا نأذن ونشرد ونرجع نأذن زي الشيخ خميس".

في جامع الجمعية كان النصيب الأكبر له مع الذكريات، في كل مرة يفتح فيها باب المسجد ينتظر أن يخبئه تحت وسادته "كنت أخاف عليه" يردد الحاج.

كان يساعده أبناؤه لتعديل جلسته، ابنه البكر كان يوازيه بخصلات شعره البيضاء، الا أن ذاكرة الحاج محمد لم توازها أخرى وهو يستحضر المصري سعد الدين خطاب الذي بنى مسجد الجمعية الإسلامية قبل ما يزيد عن خمسين عامًا ويدعو له بالرحمة والغفران.

"دخيلكم بدي أأذن"

بعد النكسة انتقل الحاج أبو علي للعيش لفترة محدودة مع أبنائه الذين سافروا لدول الخليج العربي للالتحاق بالوظائف، وبعد يومين أو أكثر اشتد شوقه للنداء "حي على الصلاة" فطلب منهم: "دخيلكم بدي أأذن لله ".

الذاكرة لم تنس كذلك أسماء المؤذنين الذين تعرف عليهم في دولة الامارات وغيرها، حيث ذكر الشيخ محمد ومحمود لأكثر من مرة خلال اللقاء، ثم أكد بقوله "أُعجبوا بأذاني كان صوتي حلو".

كنا نقترب من أذن الحاج تارة حتى يلتقط سؤالًا لنا لم يسمعه بشكل جيد، بعد وعكة صحية جعلته يلازم الفراش لأيام، أثرت على ما يبدو على سمعه.

وعكته الصحية لم تمنعه من متابعة الأذان في مسجد الجمعية الإسلامية، كما لم يمنعه حظر التجول ابان انتفاضة الحجارة والأقصى من الخروج وتحدي جنود الاحتلال الإسرائيلي لرفع "الله أكبر" ، حتى أنه لم ينقطع عن المناداة للصلاة طيلة العدوان على القطاع في عام 2009 و2012 والعدوان الأخير عام 2014.

كان يرفع كفيه بجانب أذنيه ويصرخ في وجه الجنود "الله أكبر" في إشارة منه لضرورة الوصول الى مسجد الجمعية.

نبرة صوته التي علت فجأة بعد أن أعطاه حفيده الهاتف النقال ليرينا شيئًا، قد تخالك بأنه عاد الى صباه فجأة، لاسيما بعد أن رفع ظهره عن الأريكة وهو يشير بإصبعه السبابة صوب صورة في "الجوال" ويقول: "هذا جامع البلد في يبنا أذنت فيه مرة ومرتين وعشرين".

لم يكن هناك خيار آخر للحاج أبو علي حين سألناه "وين بتحلم تأذن؟" رد مباشرة: "في يبنا" ثم ابتسم قائلًا: "والله بروح لو صحلنا نرجع".

استأذن الحاج أبو علي طاقم "الرسالة" للمغادرة، كنا نسأله وهو يهم بالوقوف وأبناؤه من حوله يساعدونه على ذلك:" ولادك بأذنوا مثلك يا حج؟  رد على عجالة:" آه كلهم بأذنوا كلهم بقولوا الله أكبر"، أتبعناه بسؤال كان الأخير فعلًا: "في حدا منهم صوته حلو زي صوتك؟" إجابته بـ " لاااا " الطويلة لم ينفك أبناؤه على إثرها ونحن وهو بالضحك عليها، وبالفخر من ثقته بنفسه حتى غادر البيت على كرسيه المتحرك لرفع الأذان في مسجد الجمعية الإسلامية بالمخيم!

 

 

 

 

 

البث المباشر