السبيليات: امتلاك رفات الموتى

رواية
رواية

تبدو رواية «السبيليات.. ما لم يرد ذكره من سيرة حياة أم قاسم»، للكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، كأنها رواية ذاتية؛ تغلب عليها تجربة الكاتب وتحمل الكثير من همومه الخاصة، وأبرزها الحرب. يعيد الكاتب في روايته سرد واقع عايشه من قبل، جاعلًا أم قاسم، بطلة روايته، المعادل الخيالي لما عاينه، وكأن سيرتها هي ما يرصده الكاتب ويذكره وفقًا لما عاينه كموفد صحفي لجريدته، في تقريره عام 1988 عن آثار الحرب.

 

 تدور أحداث الرواية ما بين عامي 1980 و 1988 إبان الحرب العراقية الإيرانية، وتحكي قصة أم قاسم وزوجها وأبنائها وأحفادها، الذين أُجبروا على ترك قريتهم من أجل الحرب، والاتجاه إلى النجف والإقامة بالطرف الجنوبي لمقبرتها الكبرى.

 

فقدت أم قاسم الزوج في الطريق من مسقط رأسها إلى النجف، فدفنته هي وأولادها بين نخلتين قابعتين في الطريق. وبعد مرور بضع سنين، تتحدى دمار الحرب وفقدان شريك الحياة، وتقرر البحث عن رفات زوجها للعودة بها إلى قريتها والإقامة بها، تاركة وراءها أبناءها وأحفادها.

 

في تصديره لروايته، والمعنون بـ«كلمة الكاتب»، يُخبرنا الكاتب بأنه تلقى دعوة من السلطات العراقية للاطلاع على الدمار الذي خلفته الحرب، ويضيف: «ذُهلنا لمشاهدة غابات نخيل أصابها الذبول، تحول سعفها للون أصفر فاقع. فجأة غاب اللون الأصفر، كنا نحلق فوق أرض مزحومة بالأخضر، أشبه بواحة غناء عرضها لا يتجاوز كيلومترين، بعدها مباشرة عادت سيادة الأصفر، تساءلت مشيرًا صوب الشريط الأخضر: لماذا هذه الأرض وحدها.. لم أتلق إجابة ترضي فضولي، اكتفى أحد الأدلاء المرافقين، قال: هذه قرية السبيليات». تظهر من مقدمة الكاتب ثيمة الرواية وأسئلتها الرئيسية؛ كيف توجد الحياة بهذا الألق في قرية تقع ضمن الأراضي الذابلة من حولها؟ تتخلل فصول الرواية الإجابة.

 

تحاول الرواية التعاطي مع هذه القرية الغريبة، عبر أحداث بسيطة تدور حول المخلفات المادية والنفسية الحروب؛ و تتجلى الآثار النفسية على أم قاسم، عند ترحيلها هي وعائلتها من قريتها، كما تتجلى  الآثار المادية على القرية من هلاك وخراب.

 

يُحمِّل الكاتب أم قاسم النصيب الأكبر من الرواية، فإلى جانب المكان، بوصفه العنصر الثابت في السرد والذي يقود سير الرواية، يضعها الكاتب كذلك بوصفها حكاية تخص أماكنه الغائبة، إذ تتجلى عبرها هواجس الفقدان والدمار، ويخضع سير الرواية لحركتها وعفويتها وهي تبحث في الأماكن المنهارة، وتستعيد وجودها من خلال غياب الآخرين المجبرين على ترك بيوتهم، والذين تحولوا إلى ضحايا أيضًا، بوصفهم يعايشون فكرة الغياب.

 

رغم قسوة الرحلة إلى قريتها ومخاطر العثور عليها من السلطات العسكرية، تشعر أم قاسم بالطمأنينة عند عثورها على رفات أبو قاسم، وعند وصولها إلى السبيليات. لا يجنح الكاتب إلى المبالغة لدى ذكر ذكريات المكان، وعند سرده لحياة أم قاسم ورحلتها المقدسة إلى قريتها، وحياتها المتعلقة بالأرض والنهر وأشجار الفواكه وبيوت جيرانها الخاوية، بل يعيد، وعبر سرد ولغة واقعيين، ترميم عالم مُدمَّر، فقط بقوة حلم أم قاسم.

 

يثير الكاتب أسئلة عن الحرب وأساليب التعايش معها. ولكن السرد لا يأتي فقط بغرض التعبير عن ذات الكاتب وأفكاره وأسئلته عن الحرب، ولكن أيضًا لإعادة إبداع حياة ما تقف على النقيض من الحرب، وتظل تنبض رغمًا عنها.

 

رغم كونها سيرة الفقد الإنساني الناتج من الحرب، إلا أن سيرة أم قاسم هي السيرة المضادة للحرب، مثلما هي سيرة المكان المفقود؛ وتتمثل فيها نظرة الكاتب لوحشية الحرب ويومياتها الفاجعة. لا تعني هذه النظرة تغييبًا للواقع، وإنما هي محاولة لإعادة تكوين سيرة مضادة لسردية الحرب، فتنسحب بقوة الخيال الصور الشاحبة لواقع الحرب.

 

تشكل القرية وتعيد إعمارها شخصيات غريبة تأثرت بالدمار، وتعيد بناء ذاكرتها أم قاسم وحمارها «قدم الخير»، بمساعدة بعض الجنود، حيث تمد طاقة الحياة النابعة منهم المكان بالحياة، ورغم استمرار تواصل الدانات المدفعية في سماء القرية، تزدهر من جديد البقع التي كان يطغى عليها الغياب والخراب.

 

تظهر ملامح العلاقة الحميمية بين أبو قاسم وأم قاسم عبر فصول الرواية، ولا تتحدد بموت أبو قاسم في أول الرواية ولا بدفنه، كما لا تتحدد أيضًا بعثور أم قاسم على رفاته بمساعدة أبنائها. بل تتجدد عبر الرؤى التي تراها له في نومها. فرؤيته يوميًا في المنام وأحاديثه المقتضبة وحيازتها رُفاته المنقولة إلى السبيليات، هي مصدر تحملها لويلات الحرب. يميز أم قاسم عدم التنازل، فالإبقاء على رفات زوجها وإصرارها على دفنه في مسقط رأسه، يشعرها بامتلاك شيء يخصها، يرادف ما تمثله علاقتها مع قريتها ومنزلها.

 

تظل الأسئلة الساذجة عن الحرب، والتي تطرحها أم قاسم باستمرار، مستنزفة بلا إجابات واضحة، كحرب استنزاف الجيوش المتحاربة. تتحدى الحرب بإصرارها على البقاء في السبيليات متحدية دانات المدافع التي تهوي على القرية بانتظام. تتسائل دائمًا عن موعد نهاية الحرب، عن معنى حرب الاستنزاف، تسأل المجند صادق بسذاجة: من يستنزف من؟ متى يعود الجميع إلى أرضهم وديارهم؟ ولا يستطيع المجند الرد عليها.

 

ترتبط المرأة بالأرض في علاقة تاريخية، لأن علاقة الإنسان بالأرض هي نفسها علاقته بالمرأة. من هنا يستخدم الكاتب ثيمة المرأة لتكون محفزًا موضوعيًا لخصوبة قرية السبيليات، وهذه الخصوبة بالتحديد هي ما وجدها الكاتب غريبة عندما شاهد القرية في عام 1988، ضمن جولة الأراضي البوار ذات اللون الأصفر المتضررة بفعل الحرب، هذا بالطبع مع تعزيز السرد بأفعال الإصلاح التي قامت بها أم قاسم، من زراعة بعض الأماكن، وحفر ثغور في السدود لإتاحة سيولة الماء لري أرض قريتها.

 

ارتبطت أم قاسم بقريتها ارتباطًا وثيقًا تعيه جيدًا. تسير لتقود رحلة العودة إلى موطنها وإعادة الحياة له، فتُصبح سيرة المكان هي نفس سيرتها.

البث المباشر