للمرة الثانية في غضون شهور قليلة، يطالعنا الإعلام الرسمي للسلطة الفلسطينية بلقب جديد للرئيس محمود عباس، ورد على لسان مدير الطب الوقائي في رام الله "كمال الشخرة" أمام الصحفيين في مؤتمر الإيجاز الحكومي الخاص بكورونا، عزا فيها ما وصفه بقلة الحالات المصابة بالفيروس في فلسطين إلى توجيهات "سيد البلاد".
وصلة جديدة بدأ يرددها المتحدثون باسم الحكومة برام الله وحركة فتح، بعد أوبريت "ملاك السلام" الذي أنتجه تلفزيون فلسطين الرسمي، في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وحملت كلماته تمجيداً للرئيس عباس، مثل لفظ "يا سيدي" ولقب "ملاك السلام" و"حارس الحلم" و"صانع فجر الغد".
لا يمكن اعتبار هذه الألقاب كلمات عابرة في سياق النصوص أو ارتجالات غير معدّ لها مسبقاً؛ لأنها تكررت على نحو بدا مقصوداً، ويدخل في إطار دعاية منظمة لها مدلولات خطيرة جداً، تعمل للوصول إلى درجة مشابهة لتأثير أفلام هوليوود، التي تحاول تقديم الرؤساء الأمريكيين على نحو يحفل بالتبجيل، وقال عنها أحد أساتذة الدراسات الأمريكية في لندن إن "هوليوود تريد أن يكون هناك إحساسٌ فعلي بأن ثمة قرارات عظيمة تُتخذ، وكلمات عظيمة تُقال".
أولاً: ينبغي الاعتراف بأن هذه الدعاية أصبحت ثقافة متأصلة فينا، وهي تمثل امتداداً لمفهوم "الزعيم" التي كانت ولا تزال حاضرة لدى شعوب عربية كموروث ثقافي واجتماعي، تريد الخلود لرؤسائها. لكن خطورتها حالياً أنها تعمل لصالح أشخاص لا يوجد إجماع عليهم، ويعملون بأجندات مرفوضة وطنياً ونتائجها كارثية، كما أنها ليست متضمنة لمواثيق التنظيم الذي يرأسونه وينتمون إليه، بل مخالفة لها، بصورة أفرزت تيارات داخلية رافضة وانقسامات أصبحت تهدد التنظيم نفسه، لكنها لم توقف المجد الزائف.
ثانياً: ينطلق هذا التبجيل بدافع الخوف من الإقصاء، وبالتالي يصبح مفهوم البطولة للرئيس الذي يقضي على مخالفيه ويكرّس الحكم لأبنائه، مؤكد بقوة القمع والإقصاء. وهناك شواهد كثيرة تؤكد هذه الحقيقة، وأن التسحيج "ليس فرحاً للعريس".
ثالثاً: تزرع هذه الدعاية الوهم بأن حكم الرئيس هو مطلب شعبي، وتحاول دفعنا إلى التخيّل بأن القضية الفلسطينية ستزول برحيله أو غيابه عن المشهد. وهذا مناقض لكل استطلاعات الرأي العام، وآخرها استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، ومقرّه في مدينة رام الله، الذي أجراه في نهاية العام الماضي 2019، وأظهر أن نسبة 61 في المئة بالضفة الغربية وقطاع غزة تقول إنها تريد من الرئيس الاستقالة، و59 في المئة غير راضين عن أدائه.
رابعاً: تصنع هذه الدعاية هالة حول الرئيس معناها أنه لا يمكننا المعارضة حتى لو رأينا خطأ ما، ورسالة بأن نتخلى عن مطالبنا في تجديد النظام السياسي، وتمكين الكفاءات الشابة المتوفرة بأن تأخذ فرصتها، إذا ما علمنا أن الشباب العاملين في مراكز صنع القرار الفلسطيني لا يتجاوزون 1 في المئة، وفق تقرير صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، في 12 آب/ أغسطس 2019، بمناسبة اليوم العالمي للشباب.
خامساً: تعكس هذه الدعاية شكل الحكم القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة "حكم الفرد المطلق"، وهو تعريف مرادف للحكم الاستبدادي الذي تتركز فيه السلطة العليا في يد شخص واحد، ويحمل هذا المفهوم إشارة إلى العظمة والسلطة، التي تظهر في الأوصاف المتداولة للرئيس حالياً، دون تحفّظ من سيادته.
سادساً: اختيار أوصاف "سيد البلاد" "وصانع فجر الغد" (قد) تعني في بُعدها السياسي أنه لن تكون هناك انتخابات رئاسية، ولا مرسوم رئاسي مرتقب. وقد تكون، ضمن معنى آخر، مقدّمة لحملة انتخابية من أنماط الدعاية الرمادية، تهدف للتأثير في وعي الناس وآرائهم، ومحاولة لتصحيح الانطباعات.
يتوقف الدور على حركات التحرير الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني والكتّاب والباحثين، في الانتباه لهذه الدعاية ودراستها جيداً مع تقدير آثارها، وعدم التساهل معها؛ لأن نتائجها قد تكون مفاجئة ومكلفة، وصعباً محو آثارها.
وكما قيل، فإن الصمت أساس كل اضطراب.