مقال: رغم الجوع.. نصر أو استشهاد

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

عبدالهادي راجي المجالي

وتعلم يا ولدي أن الأمر لا يقاس باللحظة الحالية، ما يحدث في غزة سيكون له حسابات مستقبلية خطيرة، هي الأرض الوحيدة في هذه الدنيا التي لم تجثو على ركبتيها.. لقد ركعت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ووقعت الاستسلام، واليابان بعظمتها الصناعية والعسكرية بعد القنبلة النووية الثانية ركعت ووقعت معاهدة الاستسلام ...حتى إيطاليا الفاشية هي الأخرى ركعت.

هل شاهدت (غزاويًا) يوقع على الاستسلام؟؟، هذا أول درس أريدك أن تعرفه وهو أن الشعب هناك حين ينهي بياناته بجملة: (وأنه جهاد نصر أو استشهاد)، فهو يطبق ما يقوله على أرض الواقع، غزة هي الإمبراطورية الوحيدة في هذا العالم التي دمرت مساكنها وهجر شعبها ولم توقع..

تعلم يا ولدي منهم ألا توقع مستقبلاً، والتوقيع على الاستسلام لا يعني ورقة أو قلم أو القبول بشروط العدو، التوقيع يعني انهيار القيم وضياع العقيدة وتذويب الهوية.

أما الأمر الآخر الذي عليك أن تتعلمه من هذا الدرس هو: أن الحروب تندلع بين دول وأحيانا بين دول تنتج محورًا واحدًا ودولاً أخرى تتكدس في تحالفات.. هذه الحرب هي الأولى في تاريخ البشرية، والتي تنخرط فيها القوى العظمى ضد مدينة.. أتدري أن مساحة غزة أصغر من مساحة باريس.. أتدري يا ولدي أن مساحتها أصغر أيضًا من مساحة طوكيو.. أصغر بكثير من مساحة القاهرة، تخيل أن العالم كله يقاتل مدينة والغريب أن هذه المدينة.. التي يسمونها مجازًا (قطاع).. قدمت للآن ما يقارب الـ (28) ألف شهيد، ومازالت تقاوم..

حتما بعد 50 عامًا ستكون يا ولدي كهلًا. وأكون أنا تحت تراب الكرك، لكنك ستقرأ في التاريخ درسًا مفاده: أن المدن تهزم الدول، وأن العرب في فلسطين هم من غيروا مسار المعارك في التاريخ .... ستقرأ أيضًا أن مدينة على الخارطة تبدو بحجم رمش العين أو أصغر، استطاعت أن تنتج دروسًا في علم الاجتماع.. ونسفًا لكل نظريات فرويد في علم النفس، وأنتجت (النظرية الغزاوية) في الحرب التي تفوقت على النظرية النسبية لآينشتاين.. والأهم من كل ذلك أنها نقلت الحرب من أعلى الأرض لأسفلها.

وستتعلم يا ولدي أن تعود لطارق بن زياد حين قال البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وستكتشف أن كانت غزة محاطة بالعدو من كل الجهات، حتى البحر يا ولدي حارب أهلها وحارب الشواطئ فيها ...وكان بخيلا في السمك والملح، جندوا البحر ضد مدينة.. أي عالم هذا؟

تعلم أيضًا يا ولدي أمرًا غاية في الخطورة، وهو: حين يقولون لك حماس تقاتل لا تصدقهم، حين يقولون لك الفصائل تقاتل لا تصدقهم أيضًا، وحين يختصرون المعركة بفصيل مسلح لهذا التنظيم أو ذاك لا تصدقهم، لأن من يقاتل هو الفلسطيني والطلقة لا تفرق بين تنظيم وآخر أو بين عسكري ومدني، إسرائيل تحارب الفلسطيني بغض النظر عن أيدولوجيته ومنبته، وهذه الحرب هي من أهم حروب الهوية في التاريخ.

حين تقرأ (آمين معلوف) الهويات القاتلة ستعرف ما أعنيه ..الفلسطيني لديه جغرافيا وتراث وثقافة ودين وأرض ...الفلسطيني هو الوحيد في هذا العالم المكتمل في هويته، في حين أن عدوه موزع في اللغة ..مشتت في الأصول، العدو يا ولدي لو كان يؤمن بإسرائيل كهوية متجذرة أو راسخة أو ثابتة ..لما حمل كل واحد منهم جواز سفر بجنسية أخرى ...لو كانوا يؤمنون بدولتهم وبأن الأرض لهم، لما مارسوا الجريمة، على الأقل الهوية لدى الشعوب أساسها الأخلاق، فالعرب حين تتحدث عن هويتهم أول ما يرد في وصفها مصطلح التسامح ومصطلح الكرم، إسرائيل مجرمة لأنها بلا هوية، لا يوجد في سلوكهم أي أخلاق ..يوجد في أذهانهم (خزعبلات) توراتية فقط أقنعتهم بأنهم الشعب الأفضل والأخر هو عبء على البشرية ...وتلك هي صفات العصابات ولم تكن صفات للدول الراسخة .

بعد (خمسين عامًا) ستكتشف يا ولدي، أن مجرى التاريخ قد تغير وأن مدينة هزمت دولا كبيرة، ستكتشف أن العلوم الإنسانية كلها ستغير مساراتها، وستقرأ من جديد سيرة وسلوك شعب غزة.. ستكتشف يا ولدي أيضًا أن أخطر ما حمله التاريخ لنا ..هو جملة واحدة اختصرت كل الحكاية من أولها إلى آخرها وهي : ( وإنه جهاد نصر أو استشهاد) .

البث المباشر