عشرة أشهر هو الزمن الذي ظهر فيه إسماعيل الغول على شاشة الجزيرة، ثم غاب بالأمس إلى الأبد، سريعا جاء، وسريعا رحل، دون أن يعطينا وقتا كافيا لتجرع صدمتنا به، وسريعا أحببناه، ثم فقدناه، وكان الفقد كبيرا على قلوب زملائه الصحافيين، وكأن حربا نشبت ضد العاملين في الصحافة، الصحافيون الفلسطينيون وحدهم كانوا وقودها.
الصحافي الصغير في السن كان ما قدمه أكبر كثيرا من رسالة حرب، رسالة لا يقدمها إلا من طالته الحرب والمجاعة والدمار، فزادته إصرارا وقهرا.
وقف أمام كل حدث بعد أن غابت عيون الكاميرات قسرا، كان هو حاضرا يقفز من موقع لآخر، ويلتقط مع رفيقه المصور رامي الريفي أسوأ المشاهد التي مرت على البشرية، حتى انتشرت تقاريرهما وأصبحت مصدرا لكل الإعلام الغربي والعربي.
وبعد خمسين يوما من الحرب وصل إسماعيل رفقة رامي إلى ميناء غزة بعد انسحاب جزئي، وقفا ليوثقا دمارا حل بالشارع وبغرب غزة، ليس بعيدا عنهما أرتال العدو الذي لم يرحم أحدا.
وفي نوفمبر الماضي وقفا ذات الوقفة أمام جثامين الشهداء في حي الزيتون، لكي ينقلا أسوأ مشاهد المجازر التي ارتكبها الاحتلال، نقلا صوت رجال الدفاع المدني، والأطباء، وشهود عيان، وأهالي الشهداء المكلومين، لم يتركا بابا إلا ودخلا إلى محراب منكوبيه ليصلا برسالتهما إلى العالم.
وفي مجمع الشفاء كان لإسماعيل تغطية خاصة، عشرات من المرضى والنازحين قتلهم الاحتلال، وكان إسماعيل صوتهم، وكاميرا الريفي عينهم، وهما ينقلان صور القبور التي دفن أصحابها أحياء في باحات المستشفى، وتابعا بحث المتطوعين عن الجثث والتعريف بأصحابها، وما كان لأحد أن ينقل الصورة بالشكل والطريقة التي نقلها إسماعيل ورفيقه، خاصة بالاقتحام الثاني للمستشفى.
اعتقل إسماعيل الغول لساعات من باحات الشفاء، ثم ركض عائدا إلى كاميرا رامي الريفي لينقل كل منهما رسالة الحرب متفردان ليفضحا جرائم القتل التي ترتكبها آلة الدمار الإسرائيلية، وكانت رسالتهما وما التقطاه من صور وثيقة دفعت الاحتلال للاعتراف بقتل 200 مدني من مرضى وطواقم طبية في مستشفى الشفاء.
وصل إلى شرق المدينة، ثم غربها راكضا أحيانا، وأحيانا أخرى باحثا عن شبكة اتصال يرسل منها رسالة عاجلة، ويكشف حقيقة جرم يرتكبه الاحتلال، تحدث عن المجازر، محصنا بالصور التي التقطها زميله، نقل رسالة الأفواه الجائعة في يناير الماضي عند دوار الكويت، حينما أطلق الاحتلال نيرانه على العشرات، وحينما تفرد إسماعيل وصديقه بنقل مشاهد الدماء المختلطة بالطحين، ما سمي لاحقا " مجزرة الطحين".
غاب لعشرة أشهر عن ابنته زينة، التي كبرت في مكان نزوحها بعيدا عنه، ولم يتبق لزينة الآن سوى صور لوالدها على هاتف أمها تنادي عليه من خلالاها " بابا" وهي لا تعلم أنه لن يعود.
رحل إسماعيل الغول ورامي الريفي مسبلا العينين من التعب، واقفان أمام الكاميرا على مدار الساعة، متعبا الجسد، مرتديا درعا ثقيلا لم يكن يوما كافيا ليحميهم من صواريخ الموت، كان يكفينا أن ننظر إلى وجهه إسماعيل كل يوم عبر الشاشة لنقول: لقد تعب إسماعيل، متى سيرتاح ؟!
وكان للراحة موعدها، فارتقى الرفيقان في اغتيال إسرائيلي ممنهج بالأمس، ولم يكن ذلك مفاجئا، فالرسالة التي نقلت عبرهما كانت عبئا على الاحتلال، ولكنهما الآن حيث لا جوع ولا تعب ولا ركض وراء الموت ولا خذلان.