مؤمن بسيسو
نلتمس عذرا للساسة الفلسطينيين حين يُحجمون عن التعليق على ما يجري في سوريا من مذابح بالجملة بحق الشعب السوري الثائر، لكننا نفتح أعيننا دهشة واستغرابا حيال موقف الكثير من المثقفين وقادة الرأي في المجتمع الفلسطيني الذين يتقوقعون في إطار الواقع الفلسطيني، أو لا تمتد أبصارهم إلى أبعد من زوايا المشهد المصري والتونسي واليمني والليبي.
تجربة منظمة التحرير إبان حرب الخليج الأولى لا زالت ماثلة، وجرحها في الذاكرة الفلسطينية لا زال عميقا، واللاجئون الفلسطينيون في سوريا أمانة في عنق كل الفصائل الفلسطينية، ومن هنا لا تكاد تجد من يعلّق على فظاعات المشهد السوري فصائليا وسلطويا من رجالات الصف الأول أحدا، فيما قلة محدودة للغاية من المستويات الأدنى لا تمس الموضوع إلا بقدر، يطرق العموميات والمحاور العامة دون الولوج في ثنايا المشهد وعمق التفاصيل.
لكن ضرورات الساسة لا تُلزم خيارات المثقفين، فالمثقف يجب أن ينأى بنفسه وروحه عن التماهي مع أجندة السياسي، والدوران معه حيثما دار، والارتحال معه أينما ارتحل، وأن يحتفظ لنفسه بحق التعبير عن ضمير الأمة وقيمها الناصعة بكل شفافية ووضوح، ودون وجل أو تردد أو تقصير.
لا نُنكر على السياسيين موقفهم الصامت الذي ينطلق من اعتبارات مصلحية بحتة، فللسياسة ظروفها وللضرورة أحكام كما يقولون، لكننا لا نستسيغ تقاعس المثقفين الفلسطينيين عن التفاعل الإيجابي مع مستجدات الوضع السوري الذي تنطق أحداثه كل يوم بفداحة الجرم وعظم المصاب الذي ابتلي به الشعب السوري على إيقاع تدخلات أميركية أوروبية تحاول ابتزاز النظام السوري وتصفية حساباتها معه بعيدا عن أية قيمة إنسانية أو مبدأ أخلاقي.
معظم المثقفين الفلسطينيين –على اختلاف أطيافهم وتلاوينهم- يعيشون سلبية مفرطة وركودا عجيبا إلا من رحم الله، فهؤلاء لهم حساباتهم الشخصية واعتباراتهم الخاصة، ولا تتجاوز مساهماتهم حدود وإطارات المعالجة التقليدية في أفضل الأحوال، وتتملكهم شحنات واسعة من الإحباط الذي يُقعدهم عن التفكير المبدع واشتقاق الصيغ والوسائل الفعالة لاستثمار الواقع المحيط بما ينعكس، أثرا وفائدة، على شعبنا وقضيتنا.
من المعيب أن تتحرك الثورات العربية من حولنا ولا تجد لها صدى حقيقيا في أوساط مثقفينا، اللهم إن كان البعض يعتقد أن تعليقه أو حديثه بكلمة هنا أو هناك قد أسقط فروض الواجب التي تحاصر روحه وتخنق كيانه ما لم يلبّ متطلباتها ويؤدي استحقاقاتها.
نريد حراكا ثقافيا تتأجج اتجاهات عمله، طولا وعرضا، في تفاعل مميز مع ربيع الثورات العربية، وعلى رأسها الثورة السورية التي تُهتك عرى الإنسانية فيها لحظة بلحظة. نريد حراكا حقيقيا ذو أبعاد شاملة ينتظم الكثير من الفعاليات والمعالجات المنظمة التي تقوم بحق الدين والعروبة والجوار واللغة والتاريخ من جهة، ومن جهة أخرى تستثمر الموجات الارتدادية للربيع العربي الثائر فلسطينيا عبر حراك مجتمعي، يقوده المثقفون، وينفض عن كاهله غبار السلبية والتواكل، وينزع عن كيانه ارتكاس الروح وهبوط الإرادة والسير مع تيار الواقع واتجاهاته البائسة.
الحراك المطلوب إيجابي من الألف إلى الياء، ولا يستهدف التحريض أو الزعيق في الفضاء بمعزل عن أهداف مرسومة وخطة واضحة، فنحن لا نتحرى سوى تحقيق القيم والثوابت الكبرى كالحرية والعدالة والكرامة، ولا ننشد تحقيقها إلا بوسائل مشروعة وأساليب بناءة تضبط بوصلتها دوما في الاتجاه الصحيح دون أي زيغ أو انحرافات عن سلامة ومقاصد الطريق.
المثقفون يقفون اليوم على مفترق طرق حاسم، فهل يستعيدون روح العمل والحياة والمبادرة من جديد، أم يواصلون بكائياتهم على أطلال الواقع الفلسطيني والعربي، فيما تتجاوزهم الأحداث وتلقي بهم وراء حائط التاريخ؟!