مؤمن بسيسو
أثبتت التجربة أن الاحتلال يتحكم في قواعد اللعبة ويبادر إلى صناعة الحدث فيما ينحصر دورنا كفلسطينيين في دائرة رد الفعل والعمل الإطفائي الذي يعيدنا مجددا إلى فضاء التهدئة الهشة.
جولة التصعيد الأخيرة كررت ذات المشاهد السابقة، واستنسخت نفس المعادلة المعهودة في إطار علاقة الصراع بين المقاومة والاحتلال، ففي كل مرة كان الاحتلال يختار الزمان والمكان، فيما نلوذ نحن بالرد الانفعالي ونجترح معركة يغلب عليها عشوائية الفعل والأداء بعيدا عن أي رؤية منهجية، وما تلبث الأمور أن تعود إلى سابق عهدها.
في معطيات الاحتلال قاد الشهيد زهير القيسي رحمه الله تيارا واصل إطلاق القذائف الصاروخية على جنوب الدولة العبرية طيلة الأسابيع الماضية، لكن الفعل العسكري الإسرائيلي لم يتولّ اختيار توقيت التصعيد إلا وفق رؤية منهجية وسياسة مدروسة تُدرّ عليه مكاسب سياسية ومعنوية لا تخفى على أحد.
ما أحوج قوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة إلى انتهاج سياسات عسكرية مدروسة تنأى بها عن عشوائية الفعل وارتجالية الأداء، وتنقلها من مستوى التفاعل مع العاطفة الملتهبة المولدة للتسرع والاستعجال إلى مستوى التعاطي مع الوقائع والتطورات الميدانية برؤية بعيدة المدى تجللها الحكمة والدراسة المعمقة، ويحيط بها استكشاف النتائج والمآلات قبل ابتدار الأسباب والمقدمات.
لماذا نقع في كل مرة أسرى الفعل العسكري الإسرائيلي، ونراوح في إطار الفعل ورد الفعل، ونستنزف كوادرنا البشرية الغالية دون أن نستخلص العبر من التجارب السابقة، ونعمل على إرساء أسس ومحددات موحدة لإدارة الصراع مع الاحتلال؟!
إدارة المعركة لا يمكن أن تستمر على شاكلتها الراهنة، لأننا، وبعيدا عن مبررات المعالجة الإعلامية التي توحي بالغلبة والانتصار، نجترّ ذات الأخطاء والمواقف العقيمة، ونغضّ الطرف عن المكاسب والإنجازات التي يجنيها الاحتلال.
الاحتلال، أولا، اختار توقيت المعركة وزمانها، وتمكن، ثانيا، من تجزئة الصف الوطني المقاوم عبر سياسة الاستفراد بكل فصيل على حده، أو ضرب البعض دون البعض الآخر، ثم هو الذي يختار توقيت إنهائها ثالثا، ولا نملك نحن إلا التساوق والدوران حيث يدور فعل الاحتلال.
لا يكمن حل المشكلة في الحلول والمعالجات التكتيكية فحسب، من قبيل تشكيل غرفة عمليات مشتركة لأجنحة المقاومة، أو التوافق على سبل وآليات وطرائق محددة ومتوافق عليها في مواجهة أي عدوان، فالحلول التكيتيكية، على أهميتها وضرورتها الملحة في المرحلة الراهنة، يجب ألا تلغي السعي نحو المعالجة الجذرية والاستراتيجية التي تقودنا إلى تقييم الجهد والمسار المقاوم ككل من الألف إلى الياء، والتوافق على استراتيجية كفاحية جديدة يلتزم بها الكل الوطني دون استثناء.
التعامل بالمثل مع الاحتلال على قاعدة التصعيد بالتصعيد ليست واقعية وتتجاهل اختلال موازين القوة لصالح الاحتلال وآلته العدوانية، ولا تقيم وزنا لحجم الضحايا والخسائر البشرية لدينا مقارنة بالاحتلال، كما إن التعامل بمنطق "الإطفائية" والتسكين الموضعي مع كل حالة تصعيد يمنح الاحتلال الأفضلية والجرأة على تكرار ذات السيناريو بين الحين والآخر لفرض أجندته واشتراطاته التي يحاول من خلالها العمل بأريحية على ساحة القطاع.
صراعنا مع الاحتلال طويل وممتد، وما لم نسارع إلى سد الثغرات واستخلاص العبر في إطار جهد تكتيكي عاجل يقودنا إلى جهد استراتيجي دائم يتولى الإجابة على مسألة العلاقة بين الحكم والمقاومة ويصوغ استراتيجية وطنية كفاحية موحدة، فإن الاحتلال سيبقى اللاعب الأساس الذي يتحكم بعناصر المعادلة العسكرية والميدانية، وسنحكم على أنفسنا بالتقوقع في إطار رد الفعل المحدود على جرائم الاحتلال والاكتفاء بالدور الإطفائي تمهيدا لجولات جديدة من التصعيد والصدام.