لا يُختبر الناس إلا في لحظات العسرة وأوقات الشدة والصعاب، ولا يستبين معدنها الحقيقي إلا عبر المحاكات والمفاصل الحساسة.
حين يسقط شخص ما، كبيرا كان أم صغيرا، وأيا كان وضعه أو مستواه في المجتمع، أمام طائلة الاختبار العملي في اللحظات المفصلية الحساسة من بعد سيرة تصدح بالشعارات الرنانة والمواقف الصارخة، فإن وقع الأمر يكون شديدا، والصدمة المترتبة على ذلك تبدو قوية.
لكن عندما يسقط رمز من الرموز الوطنية والشعبية التي بنت حول نفسها هالة هائلة من المواقف والشعارات، فإن الصدمة تتحول –حينذاك- إلى فاجعة يسقط معها ذلك الرمز في عيون محبيه وكل المنصفين المقدرين لجهوده ومواقفه السابقة.
حمدين صباحي الرمز والسياسي المصري المعروف الذي خاض انتخابات الرئاسة المصرية مؤخرا أحد أولئك الرموز الذين سقطوا في المنعطف الوطني الحرج، وارتكسوا في حمأة اصطفافهم الخطير ضد الثورة المصرية بداعي الحياد.
لا نخفي أن إعجابنا بحمدين صباحي بلغ مداه طيلة الفترة التي سبقت مرحلة الانتخابات الرئاسية، فالرجل، الناصري الوجهة والتفكير، شكل طيلة المرحلة الماضية حالة حية للمواقف الوطنية والعروبية الصلبة، والرجولة الصادقة، والأخلاق الأصيلة، ووقوفه الدائم إلى جانب المظلومين والفقراء.
ولا ننسى زيارته المشهودة لغزة تضامنا مع أهلها الصامدين في وجه الحصار الشرس المفروض منذ ما يقارب ست سنوات.
لكن سيرة ومواقف الرجل طيلة المرحلة الماضية تبدو في كفة، ومواقفه الأخيرة التي خذل بها الثورة المصرية وكاد أن يتسبب بإجهاضها، وبالتالي إجهاض قلب الربيع العربي، في كفة أخرى.
حمدين صباحي أقدم على تلويث تاريخه الناصع وتشويه سجل مواقفه المعطاءة في لحظة تاريخية فارقة استلزمت منه موقفا أمينا واصطفافا صريحا حَرَمَ منه الثورة والثوار، وكَشَطَ بجرّة موقف سيرته الوطنية والعروبية التي شيدها بروحية الانتماء إلى القيم الثورية والاجتماعية.
"حمدين صباحي الرمز والسياسي المصري المعروف الذي خاض انتخابات الرئاسة المصرية مؤخرا أحد أولئك الرموز الذين سقطوا في المنعطف الوطني الحرج، وارتكسوا في حمأة اصطفافهم الخطير ضد الثورة المصرية بداعي الحياد
"
في الحالة المصرية يتجلى الفارق أوسع ما يكون بين موقف حمدين صباحي بالغ السلبية وبين موقف الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح بالغ الإيجابية رغم حال الخصام الكبير بين أبو الفتوح وجماعة الإخوان التي قامت بفصله مخطئة بعد إعلان نيته الترشح للانتخابات الرئاسية.
لا يكون الرمز وطنيا وعروبيا بحق إلا حين تنزوي لديه مساحات الخلاف الشخصي والمصلحة الفئوية الضيقة لصالح مساحات المصلحة الوطنية والعروبية العليا، وتعلو لديه اعتبارات الانحياز للوطن وقضاياه الكبرى على أي اعتبار آخر.
الأمور بخواتيمها كما هو معروف، وقد ختم حمدين صباحي سيرته ومسيرته بموقف سوء كاد أن يعاود إنتاج نظامها الاستبدادي السابق، ويعيد معه مصر عقودا إضافية إلى الوراء.
على أية حال، فإن باب التوبة الوطنية والعروبية أمام حمدين صباحي وسواه من الرموز الذين سقطوا في امتحان الثورة إبان الانتخابات الرئاسية المصرية لا زال مفتوحا، فإن كان الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر فكيف لا تقبل توبة حمدين صباحي بالمنطق الوطني والعروبي؟!
ومع ذلك، لا يتوهمنّ صباحي وسواه أن العودة إلى الحضن الوطني والعروبي الحقيقي من بعد الارتكاس سوف تكون ميسورة أو تجبر بسهولة ما انكسر، فها هنا يحتاج الأمر إلى إعادة إنتاج المصداقية الوطنية من جديد.
فوق ذلك، وبالمنطق المجرد، فإن الزجاج يبقى مشوها ما بعد إعادة تركيبه وإصلاحه، وتبقى آثار الجروح ماثلة لفترة طويلة حتى ما بعد نجاح أي عملية جراحية.
وحتى اللحظة لا تبدو في الأفق أية مؤشرات على قرب توبة صباحي وبعض الرموز الذين سقطوا وطنيا وعروبيا وأخلاقيا في بحر الثورة المصرية الهادرة.