رزمة من حكايات تسلب عقلك وأنت تنصت إلى فلسطيني من دوما، كما وابل من المشاعر المختلطة يصيب قلبك، فتشعر حينًا بالقهر والحزن عندما يسرد لك أحدهم قصة حرق عائلة دوابشة، كما الفخر وأنت تستمع إلى قصة "الخال فهيم" و"طابون الحجة أمينة" و"قصص الفدائيين".
و"دوما" واحدة من قرى جنوب نابلس، عُرفت قديمًا باسم "قلائد العنبر"، وذلك لمكانتها بين القرى المحيطة بها، وأيضًا لأن أهلها وصفوا بـ "أهل الكرم والجود"، فالمجادلة والقصاروة المجاورين لها صمموا أن يعطوها حقها بهذا اللقب.
ابنة القرية "حياة دوابشة" اصطحبت "الرسالة نت" في جولة بين جنبات "دوما" تحدثها عن قصصها المدفونة بين جدران حجارتها، والمختبئة في جبالها وبيوتها، وعن الغزلان التي كانت تسرح في براريها بين الأعشاش وقد شردها الاحتلال الغاصب من اقتحاماته، استهلت حديثها: "دوما بلد نوار اللوز والمرمية والزعتر، بلد التنوع الحيوي والمناخ الجبلي والغوري والسهلي".
ترى "دوابشة" التي لم تترك فرصة إلا وتتكلم فيها عن قريتها "دوما"، أن "قريتك لن تعرف عن نفسها بنفسها"، حيث لا بد من وجود نتاجٍ فكري يخرج القرى النائية في فلسطين إلى حيز الوجود.
وتقع قرية دوما إلى الجنوب الشرقي من مدينة نابلس على بعد 24كم منها، يحدها من الشمال قرية مجدل بني فاضل، ومن الشرق غور الأردن، ومن الجنوب خربة المغير ومن الغرب قصره وجالود.
بلهجتها الفلاحية راحت "دوابشة" تروي قصص الفدائيين الذين اختبأوا ذات ليلة في طابون "ستها أمينة"، حيث استيقظت صباحًا تجهز الطابون لتخبز فيه، فتفاجأت بمجموعة بواريد قد اصطفت داخله، فنادت على زوجها.
تكمل حياة بسعادة كبيرة أن جدها وقتها نادى جاره "أبو علي"، ليسرح بالبقر كي لا تنكشف قصة الفدائيين، وذهب هو لحراستهم بوقوفه أمام الطابون، يقول: "بقي حتى انتهت ستي أمينة من الخبز ومناقيش الزعتر ولما قربت تخلص قاموا الفدائيين من النوم أطعمتهم من خبز الطابون مع الفطور القروي لأنه ستي كانت تعتبرهم انهم أمل البلاد".
باستغراب تحكي أن كل أهل القرية بعد أن علموا القصة وحتى اليوم أصابتهم دهشة كيف تحمل الفدائيون النوم داخل الطابون من غير أن يختنقوا، تضحك وتسترسل: "الجميل أن واحدًا من الفدائيين بعد سنين طويلة رجع إلى القرية يبحث عن ستي أمينة ليأكل من خبزها الطابوني".
فدوما بالنسبة لـ "دوابشة" هي قصص الفدائيين الذين يستمعون إليها من أفواه عجائز "دوما"، وحكايا الفلاحين المتمسكين بأراضيها، وريحة الطوابين والشاي التي تملأ صباحاتهم، تقول: " دوما صوت الطابور الصباحي بالمدرسة التي تجاور بيتنا، ورغم تغير ملامحها إلا أن طابور الصباح وتحية العلم الفلسطيني صباحًا ما زال يصدح بنفس النكهة "تحيا فلسطين عربية حرة تحيا القدس".
بحزن كبير راحت تسرد قصة الصباح المفجع في "دوما"، حيث استيقظوا على رائحة بيت عائلة دوابشة الذي حرقه المستوطنون، تعود بذاكرتها إلى صباح الموت والنار: "كثيرا ما يحرق المستوطنون بيوت في دوما بالليل ونفيق على كوارث مفجعة"، وتكمل بقهر حين تخبر "الرسالة" كيف يشوه المستوطنون جدران دوما بعبريتهم الكريهة، تنم عن حقدهم على الفلسطينيين.
وللخال "فهيم" حكاية أخرى حيث الشهيد "فهيم دوابشة" الذي نال حبًا كبيرًا في قلوب أهالي القرية حيث ينادونه ب "الخال" دليلًا على احترامهم له، تحكي: "يلقب بالقرآن الذي يمشي على الأرض، فهو شهيد لكن نشعر أنه معنا حي يشد من أزرنا وقت القهر ويبث العزيمة بسيرته في قلوب الثائرين".
كما كل قرية فلسطينية، تعرضت "دوما" لأشرس أنواع الظلم، حيث حاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مصادرة أراضيها وإقامة محمية طبيعية فيها، إلا أن القرار أوقف بعد تقديم أهل القرية دعوى ضده لدى المحاكم الإسرائيلية.
ولم تطأ قدما أحد "دوما" حتى تستهويه ويعجب بموقعها، فهي تتربع على مجموعة تلال متقابلة، كما تطل على منطقة الأغوار وجبال الأردن، وبها مواقع أثرية تدل على عراقتها وأصالتها.
وعين الرشاش أبرز الأماكن الأثرية هناك، فهي عين موجودة منذ آلاف السنين تتصل مع سلسلة المياه القادمة من منطقة جبال فصايل وهي دائمة الخضرة، حتى إن ذهبت إليها في أشد أيام الصيف حرارة ستلاحظ خضرة تصارع تلك الشمس الحارقة.
تتابع "دوابشة": "تمتد من قلب الجبل ذاك الذي يطل على قرية الكرم، وتخترق قلب الجبل الذي تتربع في وسطه لتمتد إلى الأسفل وداخل أعماقه حتى تغيب في فروع لن يعرف مكانها إلا الشخص الذي يملك قوة كبيرة".
تختم "دوابشة" حديثها بالمثل الشعبي: "اللي يريد العز ينزل دوما" حيث كان الناس يتنافسون لشراء قمحها الذي يضرب فيه المثل، تحكي: "دوما مشهورة بزيتونها ذي الطعم والمذاق المميز وبأرضها الخصبة، وشجرها من البطم والسريس والبلوط والقنديل والطيون".