قائد الطوفان قائد الطوفان

البكائيات ...

الرثاء في الغناء الشعبي الفلسطيني

حزن.webp
حزن.webp

الرسالة نت

إعداد: رشا فرحات

ربما تميز الفن الشعبي الفلسطيني بشيء مختلف، شيء يشبه لما مر به من قضايا مغلفة بالحزن والأسى، وهو فن البكائيات، والحقيقة أن الفن الشعبي الفلسطيني لم يتفرد وحده بالبكائيات، ولكن بكائياته ظلت مختلفة وثابته ثبات الأحزان المرتبطة بقضيته.

والبكائيات نصوص ترددها النساء في حالات البكاء، الوفاة، والندب على عزيز مات، فيبدأن بترديد أغاني الرثاء الحزينة والتي ورثنها عن جداتهن، وقد كانت عادة لا بد منها في القرى القديمة وتكون في قوالب موسيقية ووفق ألحان معروفة عن الفقد والحزن.

ومنها الندب على الشهيد والفدائي الذي ذهب إلى الحرب ولم يعد، فاشتهرت هذه الأهازيج مثل :

طلت البرودة والسبع ما طل

يا بوز البرودة من الندى منبل

ما بيني وبينك سنسله ووادي

ما بيني وبينك سِنسله ووادي"

ولكن هذه البكائيات أضحت فنا يحتاج إلى جمع بعدما اندثر القديم منها، ولم يعد هناك ندب ولا غناء في الأحزان مع ازدياد وعي الناس الذي انعكس على طقوسهم في الحزن والفرح.

وفي دراسة للدكتور عمر ماهر عودة والتي قدمها كأطروحة ماجستير، في جامعة النجاح، جمع فيها الكثير من البكائيات، وأشار إلى أن البكائيَّات الشَّعبيَّة الفلسطينيَّة، تختلف من حيث المناسبة الَّتي تُقال فيها، حيث وجد أن الفكر الشَّعبيَّ خصَّ وفاة الشَّاب بنصوصٍ تختلف عن الَّتي تقال في وفاة المرأة، والشَّهيد غير القتيل، والكبير في السنِّ غير الطِّفل، وأضفت إلى هذه الأصناف البكاء في غير الموت, كبكاء الغربة, والقضيَّة الفلسطينيَّة, والحظ, والزمن.

ويلفت الباحث إلى أن هذه الفكرةُ ليست جديدةً مبتدعةً في الفكر الشعبيِّ، وإنِّما هي متوارثةٌ منذُ القدم، فبطلُ

والبكائيَّات أقربُ أشكالِ الأدبِ إلى الرثاء، بل ترتبط بالموت وتنبثق عنه، وبمعنَى آخـر هي الجانب النظريُّ للموت، يقابله الجانب العمليُّ المتمثِّل في العـادات والتقاليـد والمعتقـدات الشَّعبيَّة، وما يتبعها من ممارسات لها علاقة بالموت من قريبٍ أو بعيدٍ، وكما كانـت الملاحـم الأدبيَّة عند الإنسان القديم وسيلةً لدراسة فكره، وكذلك الشعر الجاهليٌّ، فـإنَّ البكائيَّـات تربـةٌ خصبة لدراسة الفكر الفلسطينيِّ وموقفه من الموت.

ما يلبثُ الإنسان الشعبي الفلسطيني أن يعبِّرَ عن فزعهِ من الموت، ويصـور مشـاعرَه وأحزانه من فقدِ عزيزٍ في بكائهِ، حتى يرضخَ للموتِ ويعلن استسلامَه له، كما فعلَ مـن قبـل وبذلك نجد الإيمان الرّاسخ والقوي بحتميَّة الموت، نجدهُ متنـاثراً في البكائيَّات الشَّعبيَّة، فالموت مكتوبٌ على الجبين، لا بدَّ من وقوعهِ وإن طالَ العمـر.

 

"فيقال اللِّي مَكتُوب على الجبين لازِم تَشُوفُه العين"، ولا مهرب منه "المكتوب مـا مِنُّـه مهـروب"، هـذا المضمون تعبِّر عنه كثيرٌ من نصوص البكائيَّات ومنها:

هبِّ الهوَى شرْقِي وْغرْبي لا تِفْتحُوا عَلَيَّ جرُوح قَلْبي

كِلْمِة من االلهِ يا حَــرَايِر المَكْتوب عَ الْجِبيـن صَاير

 

و تحمل هذه الاغاني المرافقة للوفيات ملامح الأدب الشعبي الشفوي التي تنبض بالعراقة و مجهولية المؤلف و السيرورة الشفوية و حكمة الشعوب و تقوم بها النساء أما مجتمعات أو مجموعة متخصصة في هذا اللون من الغناء .

وفي بعض القرى كانت هذه النسوة تجتمع و تضع قريبات المتوفي كأمه و اخته و زوجته و ابنته في دائرة ويلتف حولها النسوة، ثم يبدأن بتعداد مناقي الفقيد و تطلب من هؤلاء المقربات ان يبكينه لما كان عليه من صفات .

 

وفي الدراسة استعرض الكاتب نماذج كثيرة من البكائيات الفلسطينية:

أمْسِ المَسـا وِتْلَمْلَمَتْ النّاسْ مِنْ أوَّلْ أمْس حَمَّـلوا يا ناسْ

مَرْ عَ حُرُمْتُه وقَلْها بْخاطْرِك الكَـاسْ دايِرْ عَا جَميعِ النَّاسْ

 

وتقول أخرى:

وأنا اللّي أسقوني كاس مُرْ وكاس تَفْريقْ وَعلينَا قَدَّر الموْلَى بْكاسْ تَفْريقْ

يا يُومْ فْرَاقْهُمْ حَـرْ وِانْشـــافْ ريق عَجاجــي وْما حدا ودَّع حدا

 

وينوه الكاتب في بحثه أنه كان يهدف إلى جمع هذه البكائيات كتراث، مع أن فيها ما ينافي الدين الإسلامي من غير وعي وقصد فيقول:" هدف البكائيِّة- أولاً وأخيراً- تصور الفزع والحزن على الفقيد، وما يبرِّر مثـل هـذه

النماذج، وما فيها من زلات، أنّها تُقال في حالة حزنٍ يصعبُ على الإنسان فيها أن يضبطَ لسانَهُ من جهةٍ، وأنَّها دون قصدٍ أو وعيٍ بكلماتِها ومن جهةٍ أخرى "

وفي الدراسة أيضا يعرض الباحث البكائيات على الوطن والشهداء ومنها : مـا دفـع الشـاعر الشَّعبيّ َإلى أنْ يقول على لسان محمد جمجوم مخاطباً أخاه:

يوسِف يا يوسف وْصَاتَك أُمِّي وِاصْحي يا أمي بعدي تِهتَمِّي

مِنْشانِ الوطنْ رخَّصْت بدَمَّي يُومُ الثّــلاثا تعالِ ادْعون

البث المباشر