في نهاية شهر نوفمبر الحالي، تُواجه المصارف الفلسطينية تهديداً خطيراً يتمثل في احتمال انقطاع العلاقات المصرفية مع البنوك الإسرائيلية، نتيجة انتهاء الضمانات أو رسائل الحصانة التي تمنحها حكومة الاحتلال الإسرائيلي للبنوك الإسرائيلية. هذه الضمانات تحميها من دعاوى قضائية محتملة وتسمح لها بمواصلة التعامل مع المصارف الفلسطينية، مما يجعل تجديدها ضرورياً لتجنب شلل في النظام المالي الفلسطيني.
وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، صرّح بأنه يعتزم عدم تمديد هذه الضمانات كجزء من سلسلة إجراءات "عقابية" ضد السلطة الفلسطينية، وذلك رداً على اعتراف بعض الدول الأوروبية بدولة فلسطين. وعلى الرغم من انتهاء الضمانات في 31 أكتوبر 2024، فقد أُجبر الاحتلال على تمديدها حتى نهاية نوفمبر بضغط من الولايات المتحدة، البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي.
منذ الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، تصاعدت التوترات المالية، حيث بات تجديد اتفاقية المراسلات المصرفية مصدر قلق للبنوك الفلسطينية بسبب المماطلة الإسرائيلية في التوقيع عليها. وأصبح التجديد يتم كل ثلاثة أشهر بدلاً من عام كامل، مما يهدد استقرار النظام المصرفي الفلسطيني ويزيد من عدم اليقين الاقتصادي.
في هذه الورقة، يقدم مركز الدراسات السياسية والتنموية تحليلاً شاملاً لتداعيات هذا الحظر المحتمل وآثاره على الاقتصاد الفلسطيني، الذي قد يتعرض لضرر بالغ إذا نُفذ القرار.
تداعيات القرار على الاقتصاد الفلسطيني:
في حال أقدمت حكومة الاحتلال على عدم تجديد هذه الرسائل، فمن المتوقع أن يكون لذلك عدة آثار وتداعيات على الاقتصاد الفلسطيني أهمها:
رأي محافظ سلطة النقد الفلسطينية الدكتور فراس ملحم:
توقف قدرة التجار والشركات الفلسطينية على توريد السلع والخدمات الأساسية للسوق الفلسطينية وتسديد أثمانها من خلال النظام الرسمي (القطاع المصرفي)، ما يؤدي إلى نمو السوق غير الرسمي الذي يعتمد على الدفع النقدي في عمليات التجارة.
يكتنف الانتقال من النظام الرسمي للنظام غير الرسمي العديد من المخاطر والتحديات أهمها ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وعدم قدرة الحكومة على استيفاء الجمارك والضرائب على هذه السلع، ما سيؤثر على العائدات الضريبية، إضافة إلى المصاريف والمخاطر المرتفعة التي سيتحملها التجار الفلسطينيين في حال تنفيذ عمليات التجارة وتسديد اثمانها بالدفع النقدي.
التهديد بقطع العلاقات المصرفية سيؤثر على قدرة المصارف الفلسطينية على شحن فائض الشيكل إلى البنوك الإسرائيلية، ويحد من قدرتها على استبدال النقد التالف، إضافة إلى الإشكالات ذات العلاقة بتنفيذ المعاملات داخلياً بعملة الشيكل.
التبعات ستكون واضحة على القطاعين التجاري والمصرفي، وأن هناك إرباكاً كبيراً سيحدث في التسويات المصرفية الناتجة عن الصفقات التجارية أو الخدمات التي تم تبادلها بين الجانبين، حيث لن تتمكن البنوك الفلسطينية من الاستفادة من قنوات التسوية المصرفية الإسرائيلية.
لن تجد البنوك الإسرائيلية تمثيلاً للبنوك الفلسطينية في المقاصّة الإسرائيلية، ما سيؤدي إلى الحذر في التعاملات التجارية على جانبي الخط الأخضر في موضوع التجارة والصفقات".
الخطورة تكمن في تحول الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصاد نقدي، وهذا سيقوض التقدم الذي حققه القطاع المصرفي في مكافحة غسيل الأموال، وسيعيق تحويلات الأموال من فلسطين وإليها.
هذا الإجراء سيعيق حركة المال الخاصة بالسلطة، خاصة تحويل أموال المقاصة لحسابات السلطة، وسيجبر السلطة على إعادة هيكلة حساباتها كالرواتب والضرائب والجمارك ومدفوعات الكهرباء والمياه والبترول من الشيكل إلى عملات أُخرى.
رأي الأكاديمي والخبير الاقتصادي د. نصر عبد الكريم:
في حال تم تنفيذ هذا التهديد، فإن التبعات ستكون واضحة على القطاعين التجاري والمصرفي، وأن هناك إرباكاً كبيراً سيحدث في التسويات المصرفية الناتجة عن الصفقات التجارية أو الخدمات التي تم تبادلها بين الجانبين، حيث لن تتمكن البنوك الفلسطينية من الاستفادة من قنوات التسوية المصرفية الإسرائيلية.
أحد البدائل يشمل استخدام البنوك المراسلة الأوروبية لتسهيل التحويلات المالية بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية، كما أن البنوك الفلسطينية لديها القدرة على التعامل مع العملات الأجنبية الأخرى مثل الدولار واليورو، ما يمكنها من الاستمرار في المعاملات الدولية.
بالرغم من الأضرار المتوقعة، لا أعتقد أن الاقتصاد الفلسطيني سيصاب بشلل أو سيعزل النظام المصرفي عن العالم لأن البنوك الفلسطينية بإمكانها أن ترسل وتستقبل الحوالات المالية بالعملات الاجنبية.
رأي صحيفة "ذا ماركر" الإسرائيلية الاقتصادية:
إذا ما تم تنفيذها بشكل فعلي، سيرى النظام المصرفي العالمي البنوك الإسرائيلية ذراعا ينفذ سياسة حكومة أقصى اليمين المتطرفة، وهو ما سيقود إلى نبذ هذه البنوك عالميا، ما قد يؤدي إلى تقويض الاقتصاد الإٍسرائيلي.
في حال تم تنفيذ قرار سموتريتش، فإن ذلك سيقطع التعامل المالي بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، وتوقف الفلسطينيين عن استخدام عملة الشيكل.
وقد تؤدي الخطوة، إلى انهيار السلطة الفلسطينية وتفشي المجاعة في الضفة الغربية، وسيضاف ذلك إلى المجاعة التي تضرب قطاع غزة بسبب الحرب التي تشنها قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر.
إن الخطوة تعتبر خرقا لاتفاق أوسلو وستطالب على خلفيته السلطة الفلسطينية، العالم، السماح لها بصك عملة فلسطينية. مضيفة أن الولايات المتحدة قد تتحرك وتضغط على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، لإلزامه بإلغاء قرار سموتريتش.
رأي الدكتور معاوية القواسمي، أمين سر جمعية رجال الأعمال الفلسطينيين:
إن قرار التعامل مع البنوك الإسرائيلية كان موجوداً منذ أكثر من عشرين عاماً، حيث كانت دائماً وزارة المالية الاسرائيلية ترسل رسائل للبنوك الإسرائيلية كخطاب ضمان، وذلك بعدم تعرضها للمقاضاة في المحاكم الاسرائيلية.
إن وزير المالية الاسرائيلي سموتريتش يسعى لابتزاز السلطة الوطنية الفلسطينية والاقتصاد الفلسطيني من خلال عدم تجديد هذه الضمانة التي ترسلها للبنوك الإسرائيلية.
أحد الشروط كان فحص مدى التزام البنوك الفلسطينية بقواعد الامتثال ومنع غسيل الأموال، حيث تم إجراء تقييم من البنك الدولي الذي أظهر أن البنوك الفلسطينية تعد الأفضل على مستوى المنطقة.
إن عدم تجديد الضمان سيؤثر سلباً على العلاقة الاقتصادية بين (إسرائيل) وفلسطين، ما سيؤدي إلى تعقيد الأمور المتعلقة بالكهرباء والمياه والضرائب وتبادل السلع بين الطرفين.
هذا القرار يعد ورقة من أوراق الابتزاز، معبراً عن قلقه من أن الحكومة الإسرائيلية اليمينية قد تقدم على أي خطوة.
المجتمع الدولي والولايات المتحدة سوف يضغطون للحيلولة دون تنفيذ هذا القرار.
وقوع هذا الأمر سيؤدي إلى أزمة اقتصادية كبيرة، تؤثر على كافة القطاعات الاقتصادية والبنوك الفلسطينية.
الردود الدولية على الخطوة:
حسب ما أورد موقع أكسيوس الأمريكي، فإن دول كبرى بقيادة الولايات المتحدة، حذرت بنيامين نتنياهو، من تسبب حكومته في انهيار الاقتصاد الفلسطيني من بوابة القطاع المصرفي.
وزيرة الخزانة جانيت يلين و7 نظراء أجانب حذروا نتنياهو من أن وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش قد يكون على وشك التسبب في انهيار الاقتصاد الفلسطيني.
ووفق الرسالة، فإن واشنطن وحلفاؤها قلقون من أن سموتريتش لن يوقع تمديد الاتفاقية، وأن انهيار النظام المصرفي قد يكون له آثار خطيرة، بما في ذلك انهيار السلطة الفلسطينية وأزمة أمنية في الضفة.
وبحسب ما جاء في توصية وزير المالية الإسرائيلي لرئيس وزراء حكومته بنيامين نتنياهو:"عدم تمديد التعويض للبنوك الإسرائيلية التي لديها معاملات مع بنوك فلسطينية، في نهاية الشهر". وبموجب بروتوكول باريس الاقتصادي الذي ينظّم العلاقة الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية و(إسرائيل) فإنّ أي بنك فلسطيني يستطيع إتمام معاملاته المصرفية مع بنك وسيط في أي دولة كانت بما فيها بنوك وسيطة داخل (إسرائيل)، وهو بنك خارج الأراضي الفلسطينية ويقوم بإجراء أعمال تخص عملاء البنك الفلسطيني.
الصادرات والواردات الفلسطينية
تبلغ نسبة الصادرات الفلسطينية إلى (الكيان الإسرائيلي) نحو 85%، فيما تبلغ نسبة الواردات المباشرة نحو 55% من إجمالي للصادرات والواردات الفلسطينية، وتسدد قيمتها من خلال العلاقة المصرفية المراسلة بين الجانبين.
المصارف الفلسطينية عملت منذ ترخيصها على تمرير وتنفيذ المدفوعات مع الجانب الإسرائيلي من خلال المصارف الإسرائيلية، وسهلت تنفيذ الصفقات التجارية، وتسديد أثمان السلع والخدمات التي يتم توريدها من السوق الإسرائيلية والسلع التي يتم تصديرها إلى الموردين الإسرائيليين، فيما نجحت المصارف في العامين الأخيرين في استقبال نسبة مهمة من أجور العمال الفلسطينيين الذين يعملون في (إسرائيل) عن طريق حوالات إلكترونية.
ومنذ العام 2018، تطلب المصارف الإسرائيلية رسائل حصانة من الحكومة الإسرائيلية مقابل استمرار تعاملها مع المصارف الفلسطينية، مهددة الحكومة الإسرائيلية بقطع العلاقة المصرفية في حال عدم اصدار هذه الرسائل.
وقد جرت العادة أن تعمل الحكومة الإسرائيلية على تجديد هذه الرسائل سنوياً؛ الأمر الذي أتاح استمرار العلاقات المراسلة بين الجانبين.
أهمية العلاقة مع البنوك الإسرائيلية:
تعتبر العلاقة مع البنوك الإسرائيلية مصلحة مصرفية فلسطينية في المقام الأول، لأن التحويلات النقدية لأغراض التجارة بين الجانبين لن تتم من دون هذه العلاقة.
ويبلغ حجم التجارة بين الجانبين شهريا قرابة 800 مليون دولار وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بينما تتجاوز قيمة التحويلات لكافة الأغراض قرابة مليار دولار شهريًا.
وتُعد البنوك الإسرائيلية مفتاحًا رئيسًا لولوج عديد البنوك الفلسطينية إلى النظام المصرفي العالمي. ومن دون هذه العلاقة، ستفقد غالبية البنوك في القطاع المصرفي الفلسطيني معظم مهامها الأساسية باعتبارها بنوكا كاملة الصلاحيات.
يبلغ إجمالي أصول القطاع المصرفي الفلسطيني قرابة 22 مليار دولار، بينما تتجاوز ودائع العملاء حتى نهاية أغسطس/آب الماضي 17.5 مليار دولار، وتقترب التسهيلات من 12 مليارا.
ويعمل في السوق المصرفية الفلسطينية 13 مصرفًا محليًا ووافدًا، بواقع 7 بنوك محلية و6 وافدة، منها 5 بنوك أردنية وآخر مصري، وفق بيانات سلطة النقد الفلسطينية.
وبموجب بروتوكول باريس الاقتصادي، تشرف سلطة النقد الفلسطينية على القطاع المصرفي، وتعمل بمثابة المستشار المالي الرسمي للسلطة في رام الله بالضفة المحتلة.
آثار اقتصادية إيجابية:
من المتوقع أن هناك آثاراً اقتصادية إيجابية قد تنتج من هذا الإجراء:
أهمها تراجع التبادل التجاري مع (الكيان الإسرائيلي) والاستغناء عن استهلاك السلع الإسرائيلية.
ترشيد استهلاك الكثير من السلع، ما يصب في مصلحة الاقتصاد الفلسطيني، خاصة أن مثل هذا الإجراء سيوقف تدفق حركة السلع والخدمات من دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى الأراضي الفلسطينية، ما سيدفع للبحث عن بدائل، إما محلياً أو عن طريق دول الجوار.
تراجع التعامل بالشيكل الإسرائيلي تدريجياً، وهذا يصب في مصلحة الاقتصاد الفلسطيني من خلال إيجاد بديل نقدي للشيكل، إما بإصدار عملة محلية أو من خلال اعتماد الدينار أو الدولار كعملة بديلة.
هذه الخطوة تعني إلغاء بروتوكول باريس الاقتصادي، ما يستدعي موقفاً دولياً سيكلف (إسرائيل) الكثير، خاصة أن ما يُطرح من سلام اقتصادي محتمل، يتعارض مع هذه الخطوة.
الخلاصة :
تُظهر الورقة أن حظر التعامل المصرفي بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية يحمل تداعيات خطيرة على الاقتصاد الفلسطيني، تتراوح بين تعطيل التجارة، وتأخير التحويلات المالية، وتهديد استقرار النظام المصرفي. رغم المخاطر الكبيرة، يمكن تخفيف الأضرار من خلال البحث عن بدائل دولية وزيادة الاعتماد على العملات الأجنبية، إلى جانب الضغط السياسي الدولي. إن أي تأخير في التدخل الدولي قد يؤدي إلى انهيار اقتصادي ، مما يستدعي تحركاً سريعاً لمنع ذلك.
التوصيات
البحث عن بدائل دولية من خلال استخدام بنوك مراسلة في أوروبا ودول أخرى بدلا من الاعتماد على النظام الإسرائيلي وتوسيع التعامل بالعملات الاجنبية الأخرى.
في حال استمرار الضغط على البنوك الفلسطينية على السلطة الفلسطينية التفكير بشكل جدي في إصدار عملة فلسطينية وطنية رغم التحديات الكبيرة المرتبطة بذلك.
الضغط على (إسرائيل) من خلال المجتمع الدولي والولايات المتحدة لتمديد الاتفاقيات المصرفية تجنبا تداعيات اقتصادية وأمنية خطيرة.
إنتاج محتوى إعلامي يتضمن مقالات وتقارير تشرح التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية لقطع التعامل المصرفي، باستخدام بيانات دقيقة وأمثلة ملموسة.
مركز الدراسات السياسية والتنموية