لا تزال توابع الربيع العربي في مراحلها الاولى, ورغم ظهور ملامح التغيير من خلال الانتخابات الحرة والنزيهة لأول مرة في المنطقة, التي كان ابرزها صعود المرشح الإخواني محمد مرسي الى رئاسة الجمهورية في مصر، الا ان مطارق الثوار لم تصل بعد الى الجدار الامني الامريكي الذي اقامته بالتعاون مع اجهزة استخبارات عربية, كان ضحيتها الشعوب العربية واكثرها تضررا الشعب الفلسطيني الذي اكتوى "بالرصاص المصبوب" حيث كانت اجهزة امن السلطة في الضفة جزءا رئيسيا في هذه المنظومة.
إذا الأمر الأبرز الذي حقّقته الثورات والانتفاضات العربية منذ إحراق محمد البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد وحتى الآن، هو اهتزاز المنظومة الامنية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية بالتعاون مع مجموعة الدول العربية.
ويبدو ان الولايات المتحدة اكبر الخاسرين في حال سقوط هذا الجدار الامني فيما ترتعد فرائس (إسرائيل) وهي تحلم بكوابيس المستقبل، وقد تخيل اليكس فيشمان المختص في الشئون الامنية في يديعوت هذا الكابوس على النحو التالي:
"الأمر الأبرز الذي حقّقته الثورات العربية هو اهتزاز المنظومة الامنية الأمريكية بالمنطقة
"
"وزير مخابرات اسلامي، إعادة نظر في اتفاقيات السلام، انهيار الاتفاقيات الاقتصادية وعدم التنسيق الامني: بعد صعود مرسي الى الحكم – كل شيء مفتوح والمستقبل محفوف بالضباب. على (إسرائيل) أن تكون جاهزة لكل سيناريو. يحتمل أن يكون قريبا اليوم الذي تنهار فيه مراسي مختلفة في منظومة العلاقات الحساسة خلف الكواليس مع مصر".
تحت عنوان «الحرب على الارهاب» شنّت الولايات المتحدة حربين مباشرتين في كل من أفغانستان والعراق، وخاضت حروباً عدّة بالوكالة في كل من باكستان والصومال واليمن وجنوبي الصحراء الكبرى، وأرست نظاماً أمنيّاً عالمياً تجلّى في التشدّد الأمني في المطارات الكبرى، ونظام التجنّس والاقامة، وانتقال العمالة والرقابة المالية والتنصّت، وما الى ذلك من قمع للحرّيّات والتدخّل في الشؤون الخاصّة للأفراد وحياتهم الأمنّية. لكن هذا النظام الأمني الذي أرادته الولايات المتحدة شاملاً وعالمياً، لضمان هيمنتها السياسية والاقتصادية على الكرة الأرضيّة، تعرّض ولا يزال لنكسات كبيرة، وجلب الويلات لشعوب عدّة في المنطقة.
اليوم مع اندلاع الثورات العربية والانتفاضات التي كان القمع الأمني، ومصادرة الحرّيّات وتكميم الأفواه، أحد مفجّراتها الأساسية، سقطت كل الوجوه الأمنيّة العربية التي ولدت من رحم النظام الأمني العربي، وسقطت معها الاجراءات الأمنيّة وأنظمة القمع والسجن بشكل لا يصدّق.
إذا الخاسر الأول في سقوط هذه الأنظمة كان واشنطن. وهذا ليس مبالغة، فالكل يتذكّر شهر شباط (فبراير) 2007 حيث سجّل حدثان بارزان في الوقت نفسه: الأول انعقاد القمة العربية في الرياض، والثاني اجتماع وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كوندوليزا رايس في القاهرة مع مديري أجهزة المخابرات في كلٍ من الأردن ومصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة.
منظومة رايس الامنية جعلت الأجهزة الأمنيّة تضطلع بمهام في شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والفكرية، علاوة طبعاً على الدور الأمني الداخلي والأمن القومي.
"المنظومة الامنية لعبت ادوارا خطيرة ضد الحركات الاسلامية بشكل عام وحماس على وجه الخصوص
"
وهذه المسألة لا تحتاج الى كثير من التوضيح، لأن معظم مفاتيح السلطة في العقود الثلاث الأخيرة، باتت فعلاً في عهدة أجهزة المخابرات العربية أو بقيادتها، وهو الدور الذي يستند إلى السيطرة السياسية على الدولة والجيش من نظام حزبي سلطوي واحد.
المنظومة الامنية التي كانت السلطة طرفا فيها مع (إسرائيل) لعبت ادوارا خطيرة ضد الحركات الاسلامية بشكل عام وحماس على وجه الخصوص, ومركزية التنسيق وصلت لذروتها بعد فوز الحركة في الانتخابات التشريعية 2006 وحينها بدأ مشروع المنسق الامريكي كيث دايتون الذي فشل في غزة وتم استئنافه في الضفة عقب الحسم العسكري .
هياكل وقادة هذه المنظومة لا زالت قائمة وهو ما يفسر اعتماد دولة الامارات محمد دحلان -القيادي الامني السابق في السلطة مستشارا امنيا لها وهو موقع امتداد للعلاقة الامنية السابقة, وحسب مصادر مطلعة فإن الرئيس محمود عباس طالب خلال زيارته الاخيرة للإمارات بإنهاء دور دحلان الامني الا ان الامارات رفضت طلبه وصدته معتبرة دحلان احد ابنائها.
الأردن ايضا يشكّل، بعد مصر، الطرف الأوثق علاقة مع الأجهزة الأمنيّة الأميركية، وهو يعتبر ثاني أكبر متلقٍّ للمساعدات العسكرية والأمنيّة الأميركية بعد مصر.
ليس من السهل تحديد طبيعة التعاون بين الأجهزة الأمنيّة الأميركية والأجهزة الأمنيّة العربية، فالأمر كلّه محاط بستار من السرّيّة التامّة، التي لم يشكّل فيها كتاب مايلز كوبلاند «لعبة الأمم»، سوى رأس جبل الجليد المختفي تحت سطح البحر. وجراء حدث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، وما تبعه من حرب عالمية أميركية على الارهاب لم تتأخّر أي دولة عربية، بما في ذلك سورية، عن التنسيق الأمني وتبادل المعلومات مع الأجهزة الأميركية، إضافة إلى الجهود المكثّفة التي بذلتها واشنطن لإقامة أجهزة أمنيّة جديدة في بعض الدول العربية، وتعزيز الأجهزة القائمة في دول أخرى، ما شكّل دفعة قويّة للغاية لتوسّع قطاع الأمن العربي، بحيث صار هذا الأخير لاعباً في الساحة الدولية، وأحياناً محدّداً أوحدَ للسياسات الخارجية في بعض هذه الدول.
(إسرائيل) اللاعب الابرز في هذه المنظومة تعد العدة لمستقبل امني مجهول والسلطة في الضفة تشعر انها قد تفقد بريقها الامني ودورها الوظيفي.
وفي هذا السياق يحذر فيشمان من المستقبل المجهول ويحرض ضد مصر الجديدة بالادعاء ان التفكير في الحقائب الحساسة التي ستقع في يد الرجل رقم 2 في منظمة الاخوان المسلمون يقلق رئيس الـ"سي.اي.ايه" الامريكي، جهاز الاستخبارات البريطاني – الـ ام – 16، وربما أيضا رئيس الموساد.
ويضيف: هذه ليست مجرد حقائب – هذا صندوق مفاسد ينطوي في داخله على الكثير جدا من المعلومات الحميمة والمحرجة. وثائق ويكيليكس هي روضة أطفال بالقياس الى القنبلة الذرية الكامنة في مكاتب المخابرات المصرية.
ويتابع فيشمان :"عاموس جلعاد، رئيس قسم التخطيط وقادة اسرة الاستخبارات الذين التقوا على مدى السنين مع وزير المخابرات المصرية سيسعدهم اللقاء مع كل وزير مخابرات جديد يعين في مصر. التخوف هو أن الوزير من صفوف الاخوان المسلمون لن يرغب في أن يراهم. هذا مجرد مثال واحد على الضرر الاستراتيجي الذي كان ينبغي لـ(إسرائيل) أن تكون جاهزة له".
في كل الاحوال المهمة الابرز الملقاة على عاتق دول الربيع العربي اقامة منظومة امنية جديدة تواجه الارث الخطير للمنظومة الامنية (الامريكية-العربية) والتي لعبت في مصير المنطقة على مدار عقود من الزمن.