قائد الطوفان قائد الطوفان

حبيبة.. عمرها 8 سنوات تعيش 5 نكبات

الطفلة حبيبة
الطفلة حبيبة

الرسالة نت- محمد أبو زايدة

تمسّد الأم بأطراف أصابعها على خصلتي شعر طفلتها ذات الثماني سنوات، وتهمس بأذنها " ست الحبايب يا حبيبة.. يا ربي خليلي حبيبة"، ثم تعتدل وتخبئ وجهها لتمسح دموعًا تأبى أن تذرفها في حضرة ابنتها.

عاشت أم حبيبة 23 عاما تنتظر ميلاد طفلتها الوحيدة لتكتحل عيونها برؤيتها، ويرتوي ظمأها، وما أن تكبر حبيبة لسنوات معدودة، وتصبح في الربيع الثامن من عمرها، حتى تكون فريسة لصواريخ الاحتلال "الإسرائيلي"، فتقعدها لأوقات غير معلومة داخل أروقة المستشفيات، تحت رحمة العلاج.

أم حبيبة التعبان 48عامًا تصمت هنيهة وعيناها مخضلتان بالدموع، ثم تنظر لطفلتها وتصرخ بأعلى صوتها وتشير بيدها اليمنى على قلبها ثم تتساءل "ما شعور أم شافت بنت بعد 23 سنة؟.. ما شعورها لمن زرعت 5 مرات وما صار نصيب، وسافرت لمصر 13 مرة وما صار نصيب، وبالمرة السادسة تنجح، وبعد ما البنت تكبر تنقصف وتصاب وتعيش بالمستشفيات؟!".

صمتت فجأة، ومسحت دموعها براحتي يدها، فهي لم تدرِ أية كلمة تختار لتصف الحدث الذي شاهدته هي وطفلتها حبيبة، أهو "تصفية.. قتل.. اغتيال.. الإجهاز عليهم". فالمشهد أصعب من ذلك، إلا أن الواقع يؤكد أن الصاروخ الذي أصابهم يحمل الحقد "الإسرائيلي".

نهر الكلمات لم يكن ليجف بين عيني أم حبيبة، فأسندت بظهرها على كرسي المشفى، وأخذت شهيقًا بعد جولتها في البكاء المكتوم والمفضوح، ثم بدأت تروي تفاصيل الكابوس الواقعي الذي رأته أمامها قبيل سويعات من مكوثها مع طفلتها بمستشفى الشفاء فتقول:

"لم نكن نطلق الصواريخ على الاحتلال، ولا نمسك البندقية ونخطف الجنود، كنا داخل بيتنا في الزوايدة وسط القطاع، وألاعب طفلتي حبيبة وأضمها لصدري حتى لا تخاف من الصواريخ".

ولكن وتيرة صواريخ الاحتلال كانت بازدياد، والمدفعية لا تبرح حتى تبلغ أصواتها بالاقتراب، أو تصل قذائفها بجوار بيت العائلة، فتضطر الأم إلى احتضان طفلتها، والخروج إلى بيت أهل زوجها، علّها تنعم قليلًا بالراحة والأمان.

تكمل الأم حديثها " حملت حبيبة بين ذراعيّ، ووصلت لبيت عمي، وما أن جلست حتى بدأت الدبابات تطلق حممها، باتجاه منزل العائلة، فركضت وبين يدي حبيبة".

لم تدرِ أم حبيبة أن خطواتها كانت نحو المجهول، فما أبعدت بضعة خطوات عن بيت عمها حتى سقطت قذيفة مدفعية بجوارها، أوقعتها على الأرض وطفلتها، وتقول " استيقظنا ولم نشعر بأي إصابات، مسحت عن وجه حبيبة الغبار، وعدت بها إلى بيتي، ولا أدري ماذا أفعل، فالمكان كله تراب، ولا مواصلات سوى القدمان".

حتى وصول بيتها، لا شيء أمام ناظريها، فذهبت لتغسل وجهها، فوجدت الأم شظايا بظهرها، وخدوش برقبتها، فلم تبال كثيرًا، وعادت إلى طفلتها لتغيّر لها ثيابها، ولكن.. وجدت مكان طفلتها قد اصطبغ باللون الأحمر.. بالدم.

تضيف " جُنّ جنوني، أين أذهب، فزوجي لم يكن في البيت يومها، حتى حملت طفلتي وبدأت أركض وأبكي أن ينقذوني، ووصلت بمساعدة أشخاص لم أعرفهم إلى مستشفى الأقصى وسط القطاع، وبدأ الأطباء بالإسعافات الأولية، ثم أكملوا الفحوصات الطبية، حتى تبين أن حبيبة مصابة بشظايا في أنحاء جسدها، وشظيتين استقرت الأولى بالكبد، والثانية بالكلى".

كأي أمٍ نسيت وجعها، وبدأت أوجاع طفلتها تؤلمها أكثر من جسد صغيرتها، حتى أنها تقول " تمنيت الشظايا أن تستقر في جسدي وكبدي بدلًا من حبيبة".

شرع الأطباء بالفحوصات لحبيبة بعد نزيف حاد بالكلى، وبدأوا بمراقبتها حتى يتوقف النزيف وتدخل لغرفة العمليات.

الجميع صامت.. لا صوت سوى رنين الأجهزة الطبية، غفت عيون أم حبيبة قليلًا علّها تأخذ قسطًا من الراحة، لكن صوت انفجارات متتالية أبت إلا أن تيقظها مفزوعة من غفوتها. المشفى بدأ بالازدحام، صراخ يملأ أرجاء المكان، وبلا أي تفكير، احتضنت الأم طفلتها حبيبة.

" قصفوا اليهود مستشفى الأقصى قبل موعد عملية بنتي، وأجوا الدكاترة نزلونا بالاستقبال، والكل كان يصرخ ويبكي. مرضى وممرضين". ومع حديثها تسربل عيناها بالدموع، ثم تضيف أم حبيبة " وحولونا على مستشفى الشفاء ليعملوا لها العملية فيه".

وما زالت حبيبة - التي شهدت الحروب على غزة "الأولى والثانية والثالثة"، كما رأت القصف بعينيها أثناء استهدافها ووالدتها، والقصف على مستشفى الأقصى-، حتى كتابة التقرير تجلس على سريرها بمستشفى الشفاء ينتظر جسدها الصغير إجراء العملية.

البث المباشر