طوفان نحو التحرير طوفان نحو التحرير

هكذا نجت رجاء أكرم من تحت جنازير الدبابة ؟!

الرسالة نت - خاص الرسالة نت


"كانت الشمس قد أشرفت على المغيب، ننصب خيامنا في خربة العدس غرب مدينة رفح منذ ثلاثة أشهر، أجلس في الموعد المحدد لنسمة الهواء مع جارتي رواء والأبناء يتقافزون بيننا، نرق العجين ونفرده على وجه السرعة، تشعل هي الحطب، وأفرد فوق رقاقة الحديد" كانت هذه بداية حكاية النجاة التي تحدثت عنها رجاء أكرم حيث كانت وعائلات كثيرة ينصبون خيامهم في خربة العدس غرب مدينة رفح .

تكمل رجاء:"  كنا نتضاحك، ضحكنا من كل شيء حولنا، من حالنا ونحن نتذكر، وقد أصبحت الذكرى تثير الفزع أحيانا لا الضحك، نكرر للمرة الألف الحال وما وصلنا إليه، هاربين أحيانا من حر الخيمة، وأحيانا من مرارة الواقع الذي كان.

واقع الخيمة لم يكن أسوأ ما حدث، ليس تلك الليلة وما بعدها، ليلة بدأت تلك اللحظة، حينما تقلب الصورة مرة واحدة وكأن زلزال ضرب المنطقة، دخلت طائرات الأباتشي مرة واحدة.

 وتحكي" دارت فوق رؤوسنا دورة واحدة بقذائف وكأنها أمطرت السماء، بينما جمعنا ما نضج من خبز، ورمينا ما تبقى من عجين، وتغطينا بخيمة ظنا منها أنها تحمي من قذيفة، وزوجي قد نصب راية بين خيمتنا وخيمة جارتي، لعل سائق الأباتشي يقتنع بأن من يخبزون عجينهم في العراء هنا هم مدنيون عزل، جاؤوا إلى هذه الأرض لأنهم أرغمونا على النزوح".

تكمل رجاء:" لكن الطائرة استمرت، بين ذهاب وعودة، تدور دورتها بالحمم، وتشاركها المدفعية من بعيد، وهم لازالوا في الخيمة لم يكن دور القذيفة أن يصيبهم قد قدّر، لكنه أصاب خيام ممتدة حولهم.

تصف رجاء ليلة كانت وكأنها خارجة للتو من مشهد سينمائي لأحد أفلام الرعب: "انبطحت أجسادنا أرضا، تمرغت وجوه أبنائي في التراب، أجسادهم ترتجف، توقفت الطائرة وظلت البوارج البحرية تضرب من بعيد، انضمت جارتي إلى خيمتنا، أطفالها إلى جانب أطفالي، الصمت يلفهم بعد أن كانوا يركضون قبل ساعات، أعرض عليهم الطعام فيخافون الأكل ويرفضون، زوجي يقف مع الجار في الخارج يستطلع الأمر"

عادوا إلى خيمتهم، الأصوات لم تنخفض، القذائف لم تقل، قصف على مسجد قريب، دمر تماما، والأولاد ناموا جوعا ورعبا لنصف ساعة ثم ايقظهم الصوت الذي بدأ يرتفع حتى لم يعد أي منا يسمع الآخر، ثم أضاءت السماء فجأة، نظرت من فتحة بالخيمة، فإذا هي أضواء دبابات قادمة، معها جرافة كبيرة بكشاف أضاء كل المنطقة، لقد رأوا الخيام !! لكنهم أكملوا الطريق" كما تصف رجاء.

تقول في وصف النهاية:" اقتربت الدبابات، الجرافة تسبقها وتأكل الخيام في طريقها ، الخيام مخلوطة بأجساد ساكنيها، الحيرة تسكننا، الخروج موت والبقاء موت، أطفالي يرتجفون، اقتربت الجرافة، أخذت بطريقها خيمة جارتي، جسدها وأطفالها وصرخاتهم، كانت وقودا لمعركة لم نحارب فيها ولا سلاح نمتلك، كانت دقائق قليلة تلك ما بين الصرخة وانتهاءها، صمتت رواء وأطفالها في لحظات.

وتكمل: " طلبت من محمد أن يظل ملتصقا في ظهري، ودفعت أحمد للاتصاق بظهر ابيه، وصغيرتي " سوسو" بين يداي أضمها بقوة، ولا أجد طريقة أخرى للنجاة سوى أن ألصق أبنائي بجسدي، خطر في بالي ما تفعله القطة حفاظا على أرواح أبنائها، خطر ببالي أن أبتلعهم دفعة واحدة لتكف أجسادهم عن الارتجاف لحظة، مخاوفهم تقتلني.

وتابعت رجاء في وصف نهاية المشهد:" كانت الساعة تشير إلى الخامسة فجرا حينما بدأت القصة بتناثر جسد جارتي وأطفالها ثم أكملت الدبابة وهي تضرب الحمم نحو خيامنا، كل منا أخرج كلمة " أخ" وسقط مصابا، وأنا أحاول لملمة جراح أبنائي، وقدمي تفجرت أسفل جسدي، لا أقوى على عد الإصابات ولا على سماع الآهات، سوسو ملطخة بالدماء، ناديت على زوجي ، تفصل بيني وبينه أمتار قليله، صوته يرتجف، هاديء بطيء الكلام، عرفت أن إصابته خطيرة، كانت كلمتين، ثم انقضى كل شيء، وخلفه ابني أحمد، وجاءت الدبابة أمام عيني، لتدوس ما تبقى منهما، ونظرت إلى محمد، فوجدته سليما، لا اصابة فيه، كان يبكي، ونظرة الخوف والفزع تملأ عيناه، طلبت منه أن يركض بكل ما أوتي من قوة، رفض، رجوته، ذكرته بأنه سيعيش، وسيكبر، وسيبقى بطلا كما عهدته، والبطولة الآن هي النجاة، حتى لو كنت وحدك.

وصفت رجاء بألم كيف طلبت من محمد أن يركض ، خلف امرأة هاربة مرت بالقرب، وتضيف:" رجوتها أن توصله إلى منزل جده، هو يعرفه، كانت عيناه معلقتان بجسد والده وشقيقه المهروس، وبأخته سوسو التي لا زالت بين يدي مصابة بين الحياة والموت، قلت له أسرع، وأطلب من أي أحد أن يرسل لنا سيارة اسعاف"

لكن لا أحد أتى، بعيدة لأمتار فقط من مكان أكثر أمنا، الدبابة إلى جانبها، وأصوات من الجهة الأخرى ترجوها أن تحاول الزحف، سوسو لا زالت تتنفس، وهي تحاول ما استطاعت.

تضيف:"  قدمي ممزقة غطت الدماء معالمها، وطفلتي تصحو مرة وتغيب مرة، وأنا تدفعني للزحف كلما أفاقت، أذكر أن هناك طفل ينتظرني، وأن هذه طفلة أملها متعلق ببضع خطوات عليّ أنا وحدي أن أقطعها زحفا، الأصوات القريبة تهتف وتشجع، تقول اقتربي، حاولي الفرار من تحت القذائف، وأنا أسأل نفسي، ما الذي فعلته أمهات يخبزن الرغيف الأخير، حتى تهرس الدبابة أجسادهن؟!

 

زحفت أكثر، قاومت خوفي، ويأسي، وأملي المتعلق في وجه طفلتي التي أضمها، وابني الذي ينتظر عودتي في مكان ما، وأسأل نفسي: تراه استطاع الوصول إلى بيت جده؟!

أقرب نقطة للأيدي التي تلقفتني كانت عاما من الزحف، صعدت إلى سيارة الإسعاف، سوسو بين يداي، فتحت عيناها وابتسمت، كأنها تعلم أننا قد نجونا، وبأن هناك حياة علينا أن نكملها، ودور ينتظرنا علينا أن نقوم به، لذلك عدنا إلى الحياة.

 

 

البث المباشر