كانت محاسن الخطيب صبية تحب الحياة، فإذا بالاحتلال (الإسرائيلي) يهجم على حياتها بقذائفه كغيرها من شباب جباليا الحزينة، والتي تحولت إلى مقبرة بفعل الإبادة المستمرة منذ خمسة عشر يوما.
بل وككل قطاع غزة المنكوب منذ أكثر من عام، يعاني ويلات الإبادة، والاحتلال يتفنن في القتل، يمارسه كهواية على أجساد النساء والأطفال.
في آخر كلماتها قالت "اسمي محاسن من غزة، أحاول أن أظل على قيد الحياة"، ولكن الاحتلال لا يريد أن يظل أبناء غزة أحياء، خاصة المبدعين منهم، فقتل محاسن في هجومه على مخيم جباليا.
ولعل محاسن كانت تتأهب لتلك اللحظة، فتركت أثرا جميلا خلفها، يتمثل في رصيد طويل من لوحات فنية عبرت عن ما يدور من وجع في دواخلنا جراء الإبادة التي تمارس علينا أمام عيون العالم.
رسمت ورسمت كثيرا، وكانت آخر لوحتها صورة الشهيد شعبان الدلو الذي ارتقى محاربا للنار المشتعلة في جسده في قصف باحات مستشفى شهداء الأقصى، جراء صواريخ الاحتلال، وبالصوت والصورة، والعالم لا زال يتفرج.
جاءت محاسن إلى مؤسسة الرسالة للإعلام كمرافقة لصديقتها الأقرب المذيعة الكفيفية وردة الشنطي، وكانت الشنطي طالبة متدربة في المؤسسة في قسم الإذاعة، وكان من الملفت جدا أن ترى تلك الصديقة ترافقها لساعات التدريب كعكاز للشنطي، تسير بجانبها وتوجهها إلى طريق المسير الصحيح، وتظل هكذا تبتسم لكل من يعرف وردة، حتى أصبحت جزءا من حضور صديقتها في كل الأمكنة، وأين ما وجدت وردة، وجدت محاسن.
في ذلك الوقت وقبل عشر سنوات كانت الخطيب قد انتهت من دراسة بكالريوس الرياضيات، وتحمل في قلبها روحا وحلما لفنانة، تريد أن تحققه، وفجأة قالت لصديقتها سأبدأ، والتحقت بدورة في الرسم الكاريكاتيري مع الفنانة الكاريكاتيرية أمية جحا، وانطلقت بكل ما لديها من أحلام، بلوحات أبهرت من حولها.
تحولت الصبية التي تحلم بالرسم خلال سنوات قليلة إلى مدربة للرسم، تعلّم حتى في أحلك الظروف، وكانت آخر ما قدمته للعالم دروسا في الرسم تحت النار، خلال حرب الإبادة، ومن بيتها في مخيم جباليا الذي أصرت هي وعائلتها على عدم الخروج منه.
دخل الاحتلال إلى جباليا مرة ومرتين، عام واثني عشر يوما، قضتها محاسن وعائلتها تحت النار، في قصف كان للشمال الحصة الأكبر منه، ورغم كل ذلك لم يغادروا منزلهم، حتى أتت اللحظة التي كان فيها منزل العائلة هدفا للقتل، فاستشهدت الفنانة الشابة، وأصيب كل أفراد العائلة.
تقول صديقتها المذيعة وردة الشنطي:" شو أقول؟! الجميع يعلم كيف كانت علاقتي بمحاسن، محاسن في فترة حياتنا الجامعية كانت من أجمل المراحل، كنا نعيش الحزن والفرح سويا، كنا نخلق الفرح في أصعب الظروف، وبأقل القليل، كانت تضحك على الدوام، ضحكة لا ينساها كل من شاهدها".
وتضيف الشنطي: "محاسن كانت تساعد الناس على حساب وقتها وطاقتها الجسدية والنفسية، عاشت في أسرة بسيطة جدا ومتواضعة، كانت هي المعيل لأسرتها، ولها شقيقان من ذوي الإعاقة البصرية، تخيلي أول مرة عملت فيها محاسن كانت في مخبز، كانت تقول لقمة العيش صعبة وأنا لأهلي".
وتضيف الشنطي: "وفي يوم قالت لي في فكرة اعتقدتها في ذلك الوقت مجنونة.. بدي أتدرب عند الفنانة أمية جحا بدي أحقق حلمي، بدي أعيش أنا وطموحي سوى"، ومن هنا بدأت حياة محاسن بالرسم".
ولكن الفنان وإن غاب جسدا، لكن روحه تبقى تنفث الحياة في أعماله، تركت محاسن خلفها لوحات كثيرة، بل قبل استشهادها بأيام تركت عبر حسابها دروسا خاصة في رسم الشخصيات إلكترونيا، عممتها للجميع حتى تبقى صدقة جارية عن روحها وكأنها كانت تعلم أن الشهادة قد اقتربت.
تقول صديقتها الكاتبة مريم قوش: "قبل أن ينقطع الاتصال في الشمال، تحدثت إلى محاسن الخطيب كان صوتها مرتجفا، وكان قلبي ينتفض، كنت أحب أن أعاكسها وأناديها: محسن، وكان هذا الاسم يثير عصبيتها وضحكها على حد سواء، قلت لها مازحةً: كيفك محسن؟ لم تتشاجر معي كعادتها، ولكنها أجابتي بضحكة مكسورة: محسن منيح! محسن خايف، محسن ضايع! ضحكت ثم قالت: محسن بيسلم عليك، كنت أسمع خلفها الطيران المرعب، وأصوات الرصاص.. كنت أعلم أن الوضع كارثي هناك، لكنني لم أتخيل للحظة أن هذه مكالمتي الأخيرة لها، كنت أمزح كثيرا، لئلا تبقى في دائرة الخوف."
لكن محاسن رحلت شهيدة، وكان آخر قولها :"بس أسمع الصاروخ بطلت أشرد عند أمي ولا أقوم من مكاني ولا أغطي داني بإيديا ولا أغمض عيوني…. مش عارفة قوة ولا تعود ولا جبروت إلي إحنا فيا".
أجل، لقد كان جبروت أهل جباليا كبيرا، كانوا نموذجا لتحدي الاحتلال، ظلوا في بيوتهم مضحين بأرواحهم، حتى لا يمرر الاحتلال أهدافه، حتى لو مر بدباباته فوق أجسادهم.