"إذا قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، هكذا فعل المزارع يوسف أبو ربيع تطبيقا لقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي زرع حتى قامت قيامة شمال قطاع غزة، وبدأت آلة القتل (الإسرائيلية) بجرف أرواح المدنيين وكذا أحلامهم هناك.
كتبنا عنه مسبقا، حين لم يُعدم أهالي شمالي قطاع غزة الوسيلة، تسلحوا بصمودهم وكرم عطاء الأرض التي احتفظت بخصوبتها لتعيد الأمل بالحياة لذويها الذين آثروا الموت جوعا على تركها للعدو الغاصب، وتحدت معهم مؤامرة التجويع التي فرضتها عليهم (إسرائيل).
جاء المهندس المزارع يوسف على رأس رحلة محفوفة بالمخاطر خاض عراكها، فبعد عودته لمنطقة سكنه عقب انسحاب الاحتلال الإسرائيلي منها، أعلن عن تحديه لحرب التجويع بزراعة الأراضي شمالي القطاع.
القلة والعوز والجوع الذي تجرع ألمه أهالي شمالي غزة لتسعة أشهر، دفعت الشاب العشريني لإيجاد حلول وتحويلها إلى حقيقة.
وربما كان أبو ربيع كان يرى الدمار، والخراب، ويعرف أن كل ذلك يحتاج لدول وحكومات لإصلاحه، ولكنه قدم نموذجا لما على الفرد أن يفعل لو كان وحده وسط الخراب أن يزرع، فالحياة تبدأ بغرس فسيلة، وتستمر طالما كان الفرد قادرا على غرسها.
عاد أبو ربيع إلى بلدة بيت لاهيا في أول اجتياح للشمال قبل أكثر من ثمانية أشهر، إلى بيت مهدم، نصب خيمته وأمسك فأسه، دار على كل المزارعين واشترى منهم البذور، زرع الخضروات فأثمرت سريعا في الأرض التي باركها مقاوموها، فجمع الخضروات في صناديق صغيرة، بضاعة شحيحة لكنها كانت ملاذا أخيرا للشمال الذي حرم من الطعام والشراب.
وهكذا انتقلت المبادرة إلى غيره من المزارعين، وبدأت الحياة تدب في الأرض الخراب، الجميع يحرث ويزرع ويحصد، حصادا زهيدا لكنه ربما يسد حاجة القليل المتبقي من أرواح جائعة في الشمال.
ثم عاد جيش الاحتلال إلى الأرض الخضراء، وأصر يوسف على عدم الخروج، ولكن آلية الاحتلال سارت على أجساد كل من تبقى في جباليا وبيت لاهيا، فاستشهد الشاب.
"هنزرعها" هكذا كان شعار مبادرة المهندس الشاب، الذي يعرف وحده ككل غزي علاقة الروح بالأرض، لأرض الشمال بالذات، التي كانت سلة قطاع غزة المثمرة على مدار العام.
قدم يوسف البذور التي جمعها لكل من أراد الزراعة، دفعة للصبر، وفرصة لمحاربة الجوع بما توفر من خير الأرض، ورغم أن أبا ربيع كان يشعر على الدوام بأنه لن يستمر، وبأنه سيكون شهيدا في أية لحظة، لأنه يعلم تماما أن الاحتلال ما كان إلا ليحارب الحياة التي يسعى أهالي قطاع غزة لزرعها في قلوبهم كل يوم.
دار على الأراضي الزراعية التي جفت بفعل الحرب، نبش في الركام باحثا عن بذور، جمعها وزرع، في فكرة تكاد تكون مستحيلة لو نظر إليها أحدنا من خارج الصورة، لكنه أصر على المحاولة، وعرفته الأرض التي تحبه، فأثمرت سريعا واخضرت.
بدأ الشاب بزراعة 40 ألف شتلة في مارس بعد استصلاح أراض زراعية، وفي أغسطس ما يزيد عن 150 ألف شتلة في محاولة لإحياء أراضينا الزراعية، فكانت تلك المبادرة البسيطة أيقونة للحياة والإصرار على المحاولة حتى الدقيقة الأخيرة .
استشهد يوسف بالأمس، بعد أن زرعت يداه آخر شتلة تحملها، ليقول للعالم إننا وإن رحلنا، فإن الأرض تحفظ شكل أيدينا التي نبشتها، وتظل تثمر جيلا بعد جيل، مخضبة وخصبة على مدار العام لأننا سقيناها بدماء أبطالها.