جباليا مرة أخرى، من بين عشرات المرات، حتى أتعبنا إحصاء عدد الشهداء، وفي كل مرة لا نجد فيها وصفا لمشهد القتل، يمارس الاحتلال (الإسرائيلي) قتلا جديدا أفظع من المرة السابقة.
عاثت الدبابات في جباليا والمناطق المحيطة بها شمال قطاع غزة، اقتحمت وسحبت معها أرواح الناس، داستهم المجنزرات وساوت أجسادهم بالتراب، وبين الحجارة، وتحت الركام، واستفردت بهم بعد أن منعت الطواقم الطبية والدفاع المدني من الدخول، وهددت الصحافيين بالقتل.
لا صورة ولا صوت يأتي من جباليا الآن، وحيدة في جوف الليل، فجّر الاحتلال 13 منزلا دفعة واحدة، وارتقى 200 شهيد كحصيلة أولى، وربما كان العدد أكبر بكثير.
والعالم يدير وجهه وقد أعلن ضجره من أخبار الموت أو اعتاد، ولكن غزة لا تعتاد، وفي كل صباح تبكي دمها على قارعة الأمل والثبات، تنتظر الفرج الذي تتيقن أنه قادم إلى المدينة الممسوحة حتى من ذكرياتها.
يدخل الجنود إلى البيوت الفارغة، يمزقون كل ما رأوه أمامهم، يكسرون ويفجرون ويشعلون النيران، وبالأمس قرروا أن يفجروا بركانا من القتل في شارع الهوجا في جباليا.
المنازل التي قصفها الاحتلال في بلوك 7 بشارع الهوجا، المكان الأكثر ازدحاما بالأهل والذكريات، مسح البيوت كلها وكأنها لم تكن، بيوت تعود لعائلات النجار، أبو العوف، سلمان، حجازي، أبو القمصان، عقل، أبو راشد، أبو الطرابيش، زقول، شعلان.
تناثرت الجثث في الشوارع، وفي الفضاء، بين مفقود ومقطع، لا أب يبكي على ابنه ولا ابن ينتشل جثمان أمه، ولا طفل يتوسل ليبقى حيا، لا أحد بجانب أحد، جميعهم قتلوا، وحتى من يشاهدون الصورة قتلوا، بتلك القسوة التي اختاروها وهم يدعون الحياد، ويديرون وجوههم، ويغطون آذانهم حتى لا يسمعوا صرخات جباليا التي ظلت ثابتة حتى النفس الأخير من الروح.
وليس هذا فحسب، بل انتقل القصف إلى مستشفى كمال عدوان، وكان دقيق الهدف، نحو الموت، فقد قصف الاحتلال محطة الأكسجين الذي يضخ أنفاسا في غرفة العناية المركزة، فقطعوا آخر حبل للحياة عن المرضى الراقدين هناك بلا حول لهم ولا قوة، قتل لأجل القتل فقط، حتى يصبح لفظ إبادة قليل جدا على المشهد، عجز عن استعمال مصطلح آخر أكثر وحشية ليصف ما يفعله هذا المحتل في شمال غزة.
قلائل من استطاعوا الخروج والتسلل بجرحاهم من المخيم متجهين نحو مستشفى المعمداني، بعد أن تعطل العمل في مستشفى كمال عدوان ومستشفى الأندونيسي، وقطع الاحتلال أي إمدادات للمستشفيات في الشمال، وحوصر الأطباء بالدبابات، ومنع الدخول والخروج لتلقي أي نوع من العلاج، وفرض شكل آخر من أشكال الموت على المرضى الراقدين هناك.
المسافة بين مستشفى كمال عدوان وشارع الهوجا لا تتعدى الخمس دقائق، لكنه حصاران، مستشفى محاصر، ممنوعة سيارات الإسعاف من الدخول، والهوجا يصرخ لا مجيب لصرخات الأحياء الجرحى هناك حتى اللحظة.
وفي هذه الدقيقة بالذات، يهاجم الاحتلال مستشفى كمال عدوان، يدخل بكل همجيته وسط تعتيم إعلامي واختفاء الصورة، والأخبار الشحيحة التي وصلت إلينا تقول إن هناك مصابين في صفوف الطواقم الطبية، لم تعرف طبيعة إصابتهم، بعد اقتحام الجنود لباحات المستشفى وطردهم للمرضى والأطباء، واعتقال من يريدون منهم، دون أسماء أو هويات أو معلومات أكثر في محاولة لارتكاب جريمة أخرى بحق الطواقم الطبية.
150 مريضا محاصرون الآن في مستشفى كمال عدوان، حطم الجنود نوافذ الغرف، قطعوا الأكسجين عن مرضى العناية المركزة، اعتقلوا الأطباء، شلال الدم لا يتوقف ولا يعرف هذا الاحتلال غير القتل هواية محبببة له.
آلة القتل المرعبة لا زالت تدور في جباليا، وبيت لاهيا، حتى أضحت منطقة شمال غزة مقبرة جماعية كبيرة، تباد منذ عشرين يوما، إبادة متواصلة، مع تهديد للطواقم الطبية والدفاع المدني والصحافيين، تهديد مباشر بالقتل.
في هذه الدقيقة، لا صوت يعلو فوق صوت الآهات القادمة من الشمال، شمال قطاع غزة الذي يباد للمرة الألف، ثأر بين المحتل وجباليا، مدينة الصمود التي حمل أهلها على أكتافهم مسؤولية إسقاط مشروع الاحتلال الجديد، أو ما أسموه بـــ(خطة الجنرالات) وهي في الحقيقة لا تحمل مخططا واضحا سوى القتل، الهدف الوحيد للمحتل منذ أكثر من سبعين عاما.