قبل أشهر كانت تحدق عيناه من نافذة المستشفى، يتأمل الباحة التي امتلأت مرضى، في وقت كان من أصعب الأوقات التي مرت على مستشفى كمال عدوان شمالي قطاع غزة، حينما اجتاح الاحتلال مستشفى الشفاء، فتوافد المرضى مع عشرات الإصابات، وأصبح هو المستشفى الوحيد الذي يعمل في غزة وشمالها، فتحملت أضعاف حملها، وحمل معها مديرها الدكتور حسام أبو صفية ذلك الحمل الثقيلصامدا على رأس عمله.
ومنذ عشرين يوما زادت أحمال المستشفى، بعد اقتحام الاحتلال لشمالي القطاع، وبالأمس، حاصرت الدبابات المستشفى، ووصل الوجع ذروته حتى يطاد من يراقب المشهد من خارجه، أن لا يتخيل أن هناك رسالة يمكن أن تصل، أو مريض يمكن انقاذه من الموت وسط كل هذا الردم وهذا الجنون، وآلة الموت التي تخطت كل حدود الإنسانية. كلما قلنا حق لهذه النار أن تنطفئ اشتعلت مرة أخرى، وأشعلت قلوبنا حزنا وحقدا على عدونا، ونحن نشاهد ما يحدث في جباليا وأكنافها، من تدمير وإبادة فاقت حدود خيالاتنا، وخيالات كل إرهاب على وجه هذه الأرض.
بعد عشرين يوما من الرباط في مستشفى كمال عدوان، يحمل الدكتور حسام أبو صفية وجعا جديدا على أكتافه، وهو وجع استشهاد ابنه الشبل إبراهيم. وجع مركب، لقائد معركة نعرف كيف كانت يده مساهمة في حفظ أرواح أطفال وجرحى المستشفى، ممن كانوا يشربون الأمل من كأسه، وصموده.
واليوم وفي ذكرى وداع الصحافي وائل الدحدوح لابنه محمود شهيدا نستذكر كلمته الخالده: "معلش، بينتقموا فينا بأولادنا" وها هم يكررون فعلتهم، ويحاولون الانتقام من القامة العلمية الذي رفض الانصياع لما طلبوه، ووقف صامدا في مستشفى كمال عدوان على رأس عمله، أمام كل ما فعله المحتل منذ عشرين يوما، وهو يدفع الأهالي للنزوح ومغادرة شمال القطاع.
صرخ في هاتفه على كل مؤسسات الدنيا، وكل وسائل الإعلام، وهو يستنجد ويرفض الخروج، وقد كان بإمكانه ذلك، فاعتقد المحتل أنه سيهزمه إذا ما استهدف نجله، ولكنه وقف في باحة المستشفى مصليا مغطيا على دموع القهر ثابتا وهو يؤم الناس على جثمان فقيده، ولا زال يلبس رداءه الأبيض، عازما على إكمال الرسالة حتى النفس الأخير من الواجب.
الدكتور حسام أبو صفية، استشاري طب الأطفال ورئيس مستشفى كمال عدوان في شمال قطاع غزة. منذ اليوم الأول لهذه الحرب، حيث بقي صامداً يؤمن الرعاية الصحية لما يقارب 150 ألف مواطن هناك. ورغم الظروف العصيبة، ناشد الدكتور حسام العالم مراراً، وسعى لنقل صورة الوضع المأساوي الذي يعانيه المستشفى إلى شاشات التلفاز العالمية، آملًا في الحصول على الدعم الطبي من أدوية ومستلزمات طبية. إلا أن الاستجابة لم تكن كما تمنى، حيث اقتحمت الدبابات العسكرية المستشفى، واعتقلته، ثم جاء اليوم ليُقتل ابنه إبراهيم، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.
وسار بابنه الطفل، حمله على كتفه باحثا عن قبر في باحة المستشفى المحاصر منذ ثلاثة أيام، وهناك دفنه أمام عينية لعله يهدأ كلما مر به وذكره بأن وظيفته كانت أن يثبت، وقد دفع لأجل ذلك ثمنا كبيرا. بالأمس في الليلة التي كانت الأصعب على مستشفى كمال عدوان، حيث ضرب الاحتلال المستشفى بقذائف، وأصاب عددا من الطواقم الطبية، وجرف جدران المستشفى، ضرب النساء والأطباء واعتقل عددا آخر من الطواقم، وسط صرخات المرضى، ثم جرف حتى ما تبقى من أدوية وأدوات طبية متبقية في الساحة، ولا زال الطبيب المقاتل، صامد على رأس عمله منذ عام ولم يستسلم.