أسطورة المقاومة أسطورة المقاومة

شهيد الرسالة الصحافي محمد عطا الله حارس الكلمة والعمل الإنساني

الرسالة نت - مها شهوان

عادةً حين يرحل الشهداء، تتسم جلسات ذكراهم بذكر مناقبهم، فهم يتشابهون في الصفات، لذا يصطفيهم الله. يعز علينا فراقهم، لكن أعمالهم تبقى راسخة بين أحبّتهم، يسيرون على ذات النهج.

اليوم تمر الذكرى الأولى لارتقاء شهيد الرسالة الصحافي محمد عطا الله – 32 عامًا – برفقة طفليه كريم وسوار، وذلك بعدما نجا بهما من الأحزمة النارية في مخيم جباليا إلى مخيم الشاطئ.

منذ الأسبوع الأول من طوفان الأقصى، استُشهدت شقيقته آلاء وشقيقه نعيم وعائلتاهما، ولم ينجُ لشقيقه سوى طفل واحد، تعهّد محمد وقتها بكفالته، وبقي يحتضنه طوال الوقت. تأثر كثيرًا بارتقاء شقيقيه، وبقي طوال الوقت يخشى على بقية أفراد عائلته.

تقول زوجته إسراء إنه منذ اللحظة الأولى من المعركة كان يدرك أنها ستطول، لكنه كان يحاول تهدئتها بالقول: "قربت تخلص"، وكان يحثّها على مواصلة عملها تحت الخطر للحفاظ على أرواح الناس.

تستذكر لـ "الرسالة نت" أنها طوال فترة الحرب كانت تخشى أن تضع جنينها الذي كان يبلغ في بداية الحرب خمسة أشهر، لكن زوجها الصحافي كان يطمئنها، موضحةً أنه كان يحاول أن يجلب لها كل ما هو متوفر في الأسواق ليعوضها عن اللحوم والدواجن، فقد كان يهتم بصحتها وبأطفالهما. وعندما علم بنوع الجنين، تمنّى تسميتها "آلاء" على اسم عمّتها الشهيدة، لتبقى ذكراها بينهم.

كيف ارتقى محمد؟

خلال العدوان على قطاع غزة، كان محمد يعمل كخلية نحل، يكتب المقالات التحليلية لموقع "الرسالة نت" الذي يعمل فيه، ويظهر على الفضائيات ليفسّر ويحلّل الحدث. لكن في هذه الحرب، وبسبب انقطاع الإنترنت، كان قلقًا جدًا، محاولًا التقاط إشارة الإذاعة لسماع آخر الأخبار ومعرفة أماكن سقوط الصواريخ التي يسمعها بالقرب منه.

بعدما اشتد القصف في مخيم جباليا، نزح إلى خان يونس ثم عاد إلى مدينة غزة، فقد رفض النزوح وفضّل العودة، كون الأمور لم تكن واضحة.

بقيت عائلته في الجنوب، بينما كان هو ينتقل مع عائلة زوجته إلى أماكن آمنة، حتى جاء مساء اليوم الـ 28 من يناير ليقضي العدوان على عائلة كاملة.

تستذكر زوجة عطا الله، الحكيمة إسراء، الحدث قائلةً: "بعدما انتهينا من تناول العشاء، راح الصغار يلعبون، بينما دخلت المطبخ لأغسل الأطباق. فجأة، سحبني الهواء أرضًا، وتكومت الحجارة عليّ دون أن أسمع صوت القصف. صرخت وناديت على محمد ووالدي وصغاري دون إجابة، بعدها صرخت على الجيران فجاءت فرق الإسعاف."

تصمت طويلًا وهي تحكي لـ "الرسالة نت" عن تلك الليلة، ثم تضيف: "سألتهم عن زوجي، فوجدوه بجانب والدي، طاروا إلى أرض الشارع، وصغاري معه"، متابعةً: "ارتقى برفقة 16 آخرين، جميعهم دُفنوا في قبر جماعي داخل مستشفى الشفاء، من بينهم والدي ووالدتي وشقيقي وعمي وثلاثة من أبنائه، وعمّتي الوحيدة برفقة أولادها وبناتها."

تحكي أنها حتى اللحظة لم تستوعب غيابه، وتقضي وقتها في مراجعة محادثاته معها، وكيف كان يهتم بها وبالعائلة، ويحكي لها عن أحلامه وطموحاته في عالم الصحافة، وكيف كان يتمنى أن يكون قدوة لصغاره.

بعد شهرين من ارتقائه، وضعت زوجة عطا الله مولودتها "آلاء"، وتقول: "لم أتخيل يومًا أنني سألد دون محمد وأمي وأبي، دون كريم وسوار وهما يحتضنان شقيقتهما الجديدة، لكني دوما أحمد الله على هذا الابتلاء."

تتذكر إسراء موقفًا حصل عندما طرق بابهم الجيران، يطلبون منها الخروج ليلاً لمداواة والدهم المريض. دفعها محمد لتأدية عملها كونه عملًا إنسانيًا، رغم أنها كانت خائفة جدًا. كما تحكي أنه كان خلال الحرب يساعد في توزيع المساعدات الإغاثية التي تصل إلى منطقة سكناه.


كيف يستذكره زملاؤه؟

تقول الصحافية مها شهوان إنه منذ بداية الحرب، بقيت تتواصل مع زميلها محمد عطا الله كلما توفر لها الإنترنت، وكانت تسأله عن الحرب كونه مهتمًا بالشأن السياسي، مضيفةً: "في كل مرة كنت أقول له: احكي، الحرب حتخلص؟"، ليرد: "لسه مطولة، فالطوفان سيغير الخارطة السياسية."

وتشير إلى أنها صُدمت حين علمت باستشهاده، كونها تعلم شغفه في عالم الصحافة وحرصه الدائم على البحث عن أفكار جديدة لكتابة التحليلات السياسية والتحقيقات الاستقصائية. موضحةً أنه لا أحد يختلف على أخلاق "أبو كريم" – كما كانوا ينادونه – فقد كان متعاونًا مع الجميع، دمث الأخلاق.

أما زميله ورفيق دربه في العمل، محمد العرابيد، فيقول: "خبر ارتقاء زميلي محمد عطا الله كان صادمًا، لم أستوعب الخبر حين وصل عبر مجموعات الواتساب. حاولت تكذيب الخبر واتصلت به، لكن لم يجب، وقتها تأكدت أنه ليس تشابه أسماء."

ويضيف: "محمد كان من أقرب الزملاء لي، فالتحاقنا بالرسالة كان معًا. كان خير صديق لي وخير سند، كثيرًا ما كان ينصحني في أغلب المواضيع التي أستشيره فيها (..). كنا نتبادل الأفكار في العمل، فكان رحمه الله يقول لي: "بحب أتناقش معك في أفكار التحقيقات"، فكنا نجلس داخل العمل وخارجه، وألجأ إليه في تطوير عملي، خاصة في التقارير السياسية."

في حين يستذكره رفيق طفولته وزميله في الصحافة أحمد أبو قمر، قائلًا: "لم أعرف محمد خلال سنوات العمل الصحفي أو خلال سنوات الدراسة الجامعية فقط، بل عرفته منذ المرحلة الإعدادية، حين درسنا في الفصل نفسه لعامين متتاليين، وجاورني في مقعد الدراسة (..). عملت مع محمد في صحيفة الرسالة لأكثر من 8 سنوات، وفي جميعها كان يجاورني بالمقعد، كما في سنوات الدراسة."

ويتابع: "خلال الأشهر الأولى من الحرب، لم ألتقِ بمحمد بسبب صعوبات التنقل، لكن كنت على تواصل معه رغم ضعف الاتصالات. لأكثر من 3 أشهر لم أشاهده، لكن اللقاء الأخير كان قبل مغرب يوم استشهاده، حيث جاء بسيارته لمكان تواجدي في المخيم، عانقني ولم أعلم أنه الوداع."

ويضيف: "جلس معي نصف ساعة وتحدث عن شقيقه نعيم وعائلته، وشقيقته آلاء وعائلتها الذين سبقوه إلى الشهادة، وكان يعتصر ألمًا عليهم. كنت أحدثه عن شقيقتي رباب التي رحلت مع زوجها وابنها (..)، وعدني أن نلتقي مجددًا بعد ثلاثة أيام، لكنه كان الوداع الأخير."

صحيح أن الزميل محمد عطا الله رحل بجسده إلى دار الخلود، لكن سيرته وعلمه لا يزالان شاهدين عليه بين الناس وزملائه. فلكل فرد من أسرة "الرسالة" معه موقف إنساني، فقد كان يساند الجميع بإمكاناته. بعد انتهاء الحرب، سيفتقده الجميع، سيفتقدون ضحكته وأفكاره في تطوير العمل، وتحليلاته السياسية.

البث المباشر