أسطورة المقاومة أسطورة المقاومة

في غزة.. خبز مغموس بالدم

غزة _ خاص الرسالة نت 

نطالع كل يوم تلك النشرة التي ترصد أعداد الشهداء، الحصيلة حتى اللحظة: أكثر من 50 ألف شهيد.

عداد الموت في غزة لا يتوقف. فالعشرات يرتقون يوميًا في مدينةٍ باتت عنوانًا للركام والحزن. الموت هنا واحد، والسبب واحد… لكنه يتخذ أشكالًا متعددة، كلّها تقود إلى جريمة واحدة: الاحتلال.

البيوت، مراكز الإيواء، المدارس، المستشفيات، الطرقات… جميعها أهداف يومية للطائرات والصواريخ، وكل قصف جديد يحصد مزيدًا من الأبرياء. تغلق المعابر، يُمنع الدواء، ويُترك المرضى لمصيرهم في انتظار موتهم القادم.

في مدينة الموت هذه، لا مدارس، لا متنزهات، ولا حتى مستقبل لأطفالٍ طُبعت على وجوههم آثار حرب مستمرة منذ أكثر من 18 شهرًا.

في هذا العالم، حيث يعيش قرابة 7 مليارات إنسان، ربما لا يدرك معظمهم أن هناك مدينة لا خبز فيها… ولا طحين.

جولة بسيطة في شوارع غزة كافية لشمّ رائحة الموت المعلّقة في كل زاوية. لكن وعلى الطرف الآخر، ستخترق أنفك رغماً عنك رائحة الخبز، ذاك المصنوع من بقايا طحين فاسد، احتفظ به الناس ليومٍ بلا طحين.

رائحة الخبز في غزة جميلة رغم كل شيء، رغم أنه مصنوع من طحين نخَره السوس، ولم يعد يصلح حتى للاستخدام الحيواني.

أكثر من سبعة أسابيع مرت على الإغلاق الكامل للمعابر. نفد خلالها الطحين، وغابت معظم المواد الغذائية، وأُجبرت المخابز على إغلاق أبوابها من جديد.

فعاد الناس إلى إعداد الخبز المنزلي. لتعود معه، مهنة الفران، التي عفا عليها الزمن في غزة منذ خمسينيات القرن الماضي، إلى الواجهة من جديد.

في أحد الشوارع، يجلس شابّان في العشرينات بجانب فرنٍ قديمٍ كان يعمل بالغاز، لكنه اليوم يشتعل بالحطب. يستقبلان الزبائن، وكل منهم يحمل فوق رأسه "فرش العجين".

يجلسان على ركام منزل دُمر بالكامل. تتدلى من بين أنقاضه أضواء زينة باهتة ومغبرة. قصفته طائرات الاحتلال على رؤوس ساكنيه… وما زالوا هناك، يسكنونه أمواتًا. فقد كان بيتهم، وبات قبرهم.

تقف إحدى الجارات في انتظار نضوج خبزها، وتستذكر أصحاب المنزل:

"الله يرحمها أم محمود، كانت ست طيبة… وزوجها كمان. قصفوهم بدون ذنب. قبل الحرب بأيام، عزمتنا على فرح ابنها محمود، وما لحقت تفرح فيه."

ثم تضيف بحزن: "كان ابنها الكبير، والوحيد من الذكور. زينت البيت وعلّقت الزينة على السطح… وما لحقت، استشهدوا كلهم، والعريس معهم."

 

على أنقاض الموت، يشعل الشابّان الحطب… وتشعل معهما إرادة الحياة. ينضج الخبز وتفوح رائحته… وتمتزج برائحة الموت.

في كل شارع، في كل زقاق، هناك رائحة خبزٍ تفوح… وعجينٍ يلوّح من بعيد. وبينه وبين الركام، موت ألفته عيون الغزيينحتى بات جزءًا من حياة لا تُشبه الحياة.

`
البث المباشر