مقال: الحلقة الاولى شهادة للتاريخ: د. موسى أبو مرزوق كما عرفته

د. أحمد يوسف

ان تكتب عن أخٍ وصديق تعرفه منذ الصغر، وتشاركه الالتزام التنظيمي في مرحلة الشباب، وتصاحبه بعد ذلك في كل المراحل الحياتية؛ سنوات الدراسة بالجامعة في قاهرة المعز، ثم العمل بالإمارات، ثم الدراسة والعمل والجوار وقيادة العمل الإسلامي في معظم سنوات وجودنا بالولايات المتحدة الأمريكية، مسيرة طويلة تجاوزت الثلاثين عاماً لم أعرف فيها لأخي موسى أبو مرزوق الا فضائله ونعمائه، وجدّه واجتهاده لخدمة مشروعنا الإسلامي، وعمله الدؤوب في قيادة نشاطنا الفلسطيني، وخاصة خلال فترة وجودنا في أمريكا أو بعد مغادرته لها، وترأسه للمكتب السياسي لحركة حماس.

على طول هذه المسيرة ومحطاتها الممتدة من غزة إلى مصر، ومن مصر إلى الإمارات، ومن الإمارات الى أمريكا، ثم الاعتقال والسجن في نيويورك والترحيل الى الأردن، وبعد ذلك الابعاد إلى سوريا، ثم الرحيل عنها بعد الثورة والعودة إلى مصر من جديد، كان د. موسى علماً فلسطينياً وقيادياً إسلامياً.

مشوار تخللته الكثير من المواقف والحكايا والمشاهد والصور، حاولت اختصارها في عناوين حركية وإنسانية وسياسية واجتماعية وجهادية، كان فيها الدكتور  موسى أبو مرزوق يمتلك زمام المبادرة واحتضان المشهد الفلسطيني وتصدر أحداثه.

 مسجد الهدى: بداية الالتزام الحركي

في مدينة رفح ومخيم يبنا نشأ د. موسي أبو مرزوق وترعرع في أسرة كان التدين طابعها العام، وكان إخوته وأخواته من الطلاب المجتهدين والمتميزين، كان أخوه الكبير اللواء محمود أبو مرزوق (أبو أحمد) من أوائل الضباط الذين تخرجوا من الكلية الحربية في مصر، وعادوا إلى غزة كضابط في جيش التحرير الفلسطيني.

قد تكون جمعتني لقاءات بالدكتور موسى أبو مرزوق في السنوات التي سبقت التزامي بحركة الإخوان المسلمين، في حوارى مخيم الشابورة أو مخيم يبنا المجاور أو في الملعب البلدي، حيث كُنا جميعاً نعشق كرة القدم، فهي لعبتنا المفضلة وتسليتنا ورباطنا بعد انتهاء اليوم الدراسي، ولكن ذاكرتي لا تملك تفاصيل تلك المرحلة.

قبل نكسة عام 67، كان معظم الشباب من المعجبين وطنياً بالرئيس جمال عبد الناصر (رحمه الله)؛ الزعيم الخالد للأمة وبطل القومية العربية، كما كانت تطلق عليه وسائل الإعلام المصرية.

ولكن بعد هزيمة العرب المذلة في حرب 67، ووقوع باقي الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي إضافة إلى سيناء والجولان، حدث تحول كبير في اتجاهات الشباب، فقد شهد قطاع غزة حراكاً غير مسبوق باتجاه المساجد، من حيث عمارتها وإعمارها.. كان مسجد الهدى أو ما كان يُطلق عليه اسم "مسجد أبو الهنود" نسبة الى المؤذن الذي كان يمتلك صوتاً جميلاً يصدح به في الآذان وتواشيح الصباح، والذي يقع في مخيم يبنا، وهو المسجد الذي كان يتردد عليه العديد من الشخصيات الإخوانية، التي سبق لمخابرات النظام المصري ملاحقتها واعتقال الكثير منها، وقد تمكن البعض منهم من مغادرة قطاع غزة سراً إلى بعض دول الخليج مثل قطر والكويت، أمثال: الشهيد محمد يوسف النجار، والأستاذ أحمد رجب الأسمر.

بدأت هذه العناصر الإخوانية في ممارسة نشاطها العلني من داخل المسجد، حيث شرعت بإقامة حلقات تعليم القرآن الكريم، ودروس الفقه والسيرة، وشهد المسجد حضوراً ملفتاً للنظر، حيث أخذ يتقاطر عليه الشباب بمختلف أعمارهم للاستماع إلى الدروس والعظات التي كان يُلقيها الشيخ حسين أحمد حسن (المصري)؛ إمام مسجد يافا الكبير من عام 36 – 1948، والشيخ رجب العطار والشيخ لطفي الهمص رحمهم الله جميعاً، وهم شخصيات إخوانية تتمتع بالتقدير والاحترام بين أهالي مدينة رفح ومخيم يبنا على وجه الخصوص.

تكاثرت الأنشطة الدينية والثقافية في مسجد الهدى، وأخذ دعاة الإخوان وعلماؤهم في القاء خطب الجمعة ودروس ما بعد المغرب والعشاء، وكان من بين أولئك الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)، والشيخ عز الدين طه، والشيخ سليم شراب (رحمه الله)، والشيخ محمد الأغا (رحمه الله)، وآخرون.

لقد أثمرت زيارات الشيخ أحمد ياسين إلى رفح والقائه دروساً في مسجد الهدى ثم لقاءاته ببعض الشباب الذين اختارهم الحاج محمود محسن؛ أحد أهم رجالات الإخوان المسلمين في المدينة، حيث كان تاجراً للأقمشة، وبيته مفتوح لاستقبال الشيخ أحمد ورعاية لقائه بهؤلاء الشباب، ويمكن القول إن في بيت هذا الرجل الصالح تمَّ تنظيم أول مجموعة على مستوى القطاع، والتي سرعان ما أصبح نظيراً لها بمسجد العباس في غزة ، ثم المعسكرات الوسطى، وبعد ذلك في مخيم جباليا، إلى أن أصبحت كل مدن القطاع ومخيماته تحتضن مجموعات إخوانية في سياق وحدة تنظيمية واحدة، وكان هناك من يعمل على مساعدة الشيخ أحمد ياسين في تحركه مع هذه المجموعات، أمثال: الأستاذ محمد الغرابلي (رحمه الله) والأستاذ عبد الفتاح دخان.

 لا شك أن الترابط الكبير بين مدن القطاع وقراه قد ساعد على سرعة معرفة هؤلاء الشباب لبعضهم البعض، الأمر الذي مهدَّ الاجواء لنشاطات مشتركة وزيارات متبادلة ومعسكرات ترفيهية على شاطئ البحر يأتي إليها الشيخ أحمد ياسين وبعض القيادات التاريخية للحركة لإلقاء الدروس الوعظيّة، وتقديم شروحات للكثير من المفاهيم الحركية والتنظيمية.

كان الشيخ الشهيد أحمد ياسين هو الأبرز من بين كل الدعاة في اجتذاب الشباب وتقسيمهم في وحدات عمل تنظيمية، وكان الدكتور موسى أبو مرزوق واحداً من بين هؤلاء الذين تمَّ تنظيمهم على يد الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله).

ان المشهد الذي ما زال حاضراً في ذاكرتي للشاب موسى أبو مرزوق هو جلوسه في باحة مسجد الهدى، وبين يديه أحد مجلدات "في ظلال القرآن" للشهيد سيد قطب يقرأ منه، ويتبادل مع بعض إخوانه الرأي حول ما جاء فيه.

بعد احتلال قطاع غزة عام 67 بعدة شهور فتحت المدارس أبوابها، إلا أن العديد من الطلاب قاطعوا العودة إليها، باعتبار أن "لا تعليم تحت الاحتلال"، وكان الطالب موسى أبو مرزوق من بين هؤلاء، حيث درس الصف الحادي عشر في بيته (نظام منازل).. وفي السنة النهائية من مرحلة الثانوية العامة، توجه الأخ موسى لمقابلة الشيخ أحمد ياسين طالباً منه الرأي والمشورة فيما يتعلق برغبته في السفر إلى مصر والدراسة فيها.. أشار عليه الشيخ أحمد (رحمه الله) بالحرص على الالتحاق بالكلية الحربية، وذلك لحاجة في نفس الشيخ أن يراه ضابطاً تنتظره مهمات وطنية عندما يعود إلى غزة.. في مصر، درس الأخ موسى الثانوية العامة في مدينة شبين الكوم، وحاول جهده للالتحاق بالكلية الحربية إلا أن قراراً صدر بإلغاء مساواة الفلسطينيين بالمصريين مما يعني حرمان الأخ موسى من تحقيق أمنية شيخه أحمد ياسين، فالتحق الأخ موسى بمعهد شبين الكوم الصناعي والذي تحول في السنة الثانية إلى كلية هندسة تابعة لجامعة حلوان.

انتقل موسى من شبين الكوم إلى القاهرة، حيث أصبح على احتكاك يومي مع إخوانه الطلاب من قطاع غزة.

وبالرغم من الظروف الصعبة - نسبياً - التي كانت تواجه الإخوان والعمل الإسلامي في القاهرة إلا أن موسى استطاع تجنيد العديد من الطلاب الفلسطينيين والمصريين.

في القاهرة: الدراسة تجمعنا من جديد

انتقل الأخ موسى للقاهرة في وقت كان فيه النشاط الاسلامي في الجامعات المصرية على أوجه، ولعله كان الطالب الفلسطيني الوحيد الملتحي في الجامعات المصرية عام 1971. كان التنظيم الفلسطيني الذي يجمع طلاب الإخوان من قطاع غزة يعيش أزمة قيادة وتباعد في الأماكن، حيث إن الجامعات المصرية كانت موزعة في كل الأقاليم من الإسكندرية إلى أسيوط ومن الزقازيق إلى القاهرة والجيزة. كانت لنا جلساتنا الأسبوعية ولقاءاتنا الشهرية تبعاً لقرب المكان أو بعده، وكنا ندير أنشطتنا الدعوية والحركية بحذر شديد، وبعيداً – بالطبع - عن أعين أجهزة أمن الدولة المصرية.

كان من حُسن حظنا أن سنوات السبعينيات شهدت انفراجاً في العلاقة بين الرئيس السادات والإخوان المسلمين، حيث تمَّ الافراج عنهم من السجون والمعتقلات، وسمح لهم النظام بالعودة إلى ممارسة أنشطتهم الدعوية والتربوية في المساجد والساحات، بهدف فتح صفحة جديدة في العلاقة معهم، وكذراع – فكري ومجتمعي - ضارب يمكن الاستقواء به لمواجهة خصومه السياسيين من الشيوعيين، الذين كانوا متغلغلين في كل مرافق الدولة، وعلى رأس الكثير من المواقع القيادية المدنية والعسكرية.

في الحقيقة، كانت المناسبات الدينية هي واحدة من المجالات التي كان (الإخوان المسلمون) يُظهرون فيها مكانتهم وتميزهم كقوة مجتمعية منظمة، وذلك بمشاركة عشرات الألاف من كوادرهم في الاحتفالات التي يعقدونها بميدان العباسية وساحة عابدين.

بالطبع كُنا نشارك في حضور هذه التجمعات الجماهيرية الحاشدة، والتي اتاحت لنا اللقاء والتعرّف على القيادات التاريخية لحركة الإخوان المسلمين في مصر، مثل: الاستاذ عمر التلمساني، والدكتور أحمد الملط، والاستاذ مصطفى مشهور، والاستاذ كمال السنانيري، والشيخ سليمان ربيع، والشيخ يوسف القرضاوي الذي كان يحضر خصيصاً من قطر في المناسبات والاحتفاليات الكبيرة، وخاصة في عيد الفطر أو عيد الأضحى المبارك، وأيضاً قيادات الإخوان الشبابية أمثال: د. عبد المنعم ابو الفتوح، ود. عصام العريان، ود. حلمي الجزار.

البث المباشر