في قلب غزة، حيث لا تجد الأمهات سوى القبور لتقف أمامها بحثًا عن طيف غائب، تقف رائدة أبو العلا، أم حسام، يومًا بعد يوم أمام قبرٍ لا تعلم إن كان فعلاً يحتضن ابنها جمال. تنتظر، لكن ما من شيء يعود إليها سوى الذكريات، وصوت الخيبة الذي يملأ قلبها، فلا جمال يعود، ولا جسده يُدفن، ولا حتى أمل يشرق. هو غائب، كما غابت معه ابتسامة الأمومة التي كانت تملأ قلبها.
جمال أبو العلا، الشاب الذي كان يومًا ما في عز شبابه، أصبح جزءًا من قصة مريرة ترويها أمه بصمتٍ يفيض بالأسى. في فبراير من العام الماضي، كان جمال في زيارة لمجمع ناصر الطبي، حين اعتقله جيش الاحتلال (الإسرائيلي).
وفي مشهد مأساوي لا يُنسى، استخدمه الجنود درعًا بشريًا، مقيد اليدين، وأمام عينيه مأساة أكبر من أن يتحملها جسده، حيث أُجبر على حمل رسالة من جنود الاحتلال إلى النازحين في المجمع، تأمرهم بالمغادرة.
لكن ما حدث بعد ذلك كان أشد قسوة. عاد جمال مكبل اليدين، ليُترك في مكانه بالقرب من تجمع الجنود. لم تمضِ سوى ساعات قليلة، حتى جاء الجواب المروع: العثور على جسده ممددًا على الأرض، عيناه معصوبتان، ورصاصة اخترقت رأسه، فأنهت حياته.
إلا أن المأساة لم تنتهِ هنا، فبينما كانت أم جمال تتمنى لو أنها تعثر على جثمانه لتدفنه كما يليق، جاءها الألم مضاعفًا. ابنها الآخر، حسام، تعرض لإصابة بالغة جعلته طريح الفراش.
رصاصة أصابت حوضه، فأصبح مشلولًا، لا يقدر على الحركة ولا النهوض، ومع ذلك، لم يكن له من أمل سوى انتظار تحويلة طبية قد تتيح له العلاج ذات يوم.
هكذا، انقسمت حياة الأم بين البحث عن جثمان ابنها جمال، وبين مراقبة جسد حسام العليل، الذي ينتظر الفرج.
لكن هذه القصة لم تكن الوحيدة، فقد استخدم الاحتلال (الإسرائيلي) العديد من الشبان الفلسطينيين دروعًا بشرية، وهم يدفعون ثمن الإبادة الجماعية التي مورست بحق سكان غزة.
لم يتوقف جنود الاحتلال عن توثيق هذه الجرائم، ولم يتوقفوا عن استخدام المدنيين كحواجز بشرية، سواء في مواجهة دباباتهم أو لإجبارهم على التفاعل معهم حفاظًا على حياتهم.
وفي كل يوم، تظل رائدة أبو العلا، أم حسام، تحمل ألمًا لا ينتهي. لا قبر تحتضنه لابنها جمال، ولا علاج يتوفر لابنها حسام. حياتها مليئة بالانتظار والألم، لكنها تظل صامدة، كما تصمد كل أمهات غزة. لا شيء يطفئ نار قلبها سوى الأمل في أن يأتي الفرج يومًا ما.